التنين الأصفر والصعود نحو القمة: أية مؤهلات وأية انعكاسات على مستقبل  العالم الإسلامي ؟


لم تمر على سقوط المعسكر الشيوعي إلا حوالي عشرين سنة (20سنة) ، اعتقد فيها الجميع بتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم والتحكم في صنع أحداثه ولم يشك أحد أن الدولة التي تملك أكبر مؤهلات السيطرة العالمية هي الولايات المتحدة لوجود مؤشرات عديدة ( مستوى الدخل الفردي ، والاستثمار والبحث العلمي والقوة النقدية للدولار والقوة النووية….).

غير أن موازين القوى الدولية بدأت تتغير ملامحها تدريجيا بعد تعافي الدب الروسي من أزماته الكبرى وبعد بروز مظاهر الصعود الصيني اقتصاديا وتكنولوجيا . وبدأ الخبراء ينظرون بواقعية إلى هذا التحدي الصيني الذي شرع يفرض وجوده في الآن وفي المستقبل القريب فما هي مقومات الصعود الصيني إلى مستوى التنافس على القمة؟ وما هي آثار التحول من القطبية الأحادية إلى التعددية  وانعكاساتها على النظام الدولي عامة  وعلى منطقتنا العربية والإسلامية ومشكلاتها؟

أولا-ما هي مقومات التحدي الصيني ومؤهلاته؟

يرصد الخبراء في النظام الدولي و الدراسات الاسترتيجية مراكز القوة لدى الصين في ما يلي :

- عدد السكان الذي يبلغ حوالي 1,3 مليار نسمة وهو وحده يشكل أكثر من عدد سكان أوروبا وإفريقيا معا ، كما يفوق عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي أربعة أضعاف  وهذه الثروة البشرية كافية لإكساب الصين أكبر سوق داخلي يحقق لها الاكتفاء الذاتي، فما بالك لو اتجهت نحو السوق الخارجية ونافست غيرها فيه؟

- النمو المتسارع  لاقتصادات الصين:إذ  لوحظ منذ أكثر من ثلاثين سنة تزايد نمو الاقتصاد الصيني بمعدلات متسارعة سواء في الناتج المحلي من1% إلى 5% أو في نصيب الصين من التجارة العالمية من 1% إلى 5 % ومن التجارة الخارجية للصين بنحو 30%  بعد انضمامها لمنظمة التجارة العالمية سنة 2001،

- توفر الصين على أكبر قوة في العالم تقرب من المليار يد عاملة محلية ، وامتلاكها لأكبر احتياطي عالمي من النقد الأجنبي (مارس2008) وتتبادل مع الولايات الأمريكية  المركز الأول في جذب الاستثمارات الخارجية، كما أن استثماراتها الخارجية ارتفعت بأرقام عالية جدا (من 2.9 مليار دولار عام 2003 إلى 26 مليار دولار في بداية عام 2008).

- ومن جهة أخرى اعتبرت الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم  ويتوقع أن تتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية بعد 2010 كما اعتبرت أكبر مستورد للنفط العالمي ويتزايد الطلب الصيني على النفط إلى مقدار يفوق 13 مليون برميل  يوميا مع حلول 2030 ويقدر أن يرتفع الطلب الصيني على وقود السيارات إلى أعلى نسبة عالمية في حدود 2030 أيضا مما ينذر بحدة المنافسة بينها وبين الدول الصناعية الكبرى

- وفي مجال تقنية الاتصالات بدأت تحتل الصين المركز الأول عالميا كأكبر سوق عالمية لأجهزة الحاسوب الشخصية وتزايدت وارداتها ما بين 20 و30% مما يرشحها لأن تكون أكبر سوق استهلاكية في العالم  كما أن عدد مستعملي الانترنيت في الصين ارتفع إلى أكثر من 210 مليون وهو رقم يعادل أو يقرب مما تتوفر عليه الولايات المتحدة الأمريكية وهو مرشح للارتفاع بشكل أكبر مع الإقبال المتزايد على تقنية المعلوميات وازدياد الطلب عليها مما يتوقع معه أن تصبح الصين أكبر سوق عالمية في هذا المجال

- وبالموازاة مع هذه القوة الاقتصادية المتنامية تمتلك الصين من الناحية العسكرية أكبر جيش في العالم، يصل إلى ما يقرب من 3 ملايين جندي وتعتبر الصين دولة نووية( تقدر بحوالي 100 صاروخ نووي وتقنيات أخرى) وتطور قدراتها النووية باستمرار وتعمل بجهود حثيثة لتحديث جيشها وتزويده بأحدث معدات التكنولوجيا الحربية المعاصرة(أكثر من 100 قمر للتجسس وبرنامج فضائي طموح)

وبسبب هذه القوة الاقتصادية والعسكرية والاعتماد على الذات ورفض الانصياع للضغوطات الغربية استطاعت الصين أن تحمي نفسها من الأزمة المالية العالمية الحالية التي أثرت في الاقتصاد الغربي والأمريكي بالأساس بل أصبحت هي الدولة التي يتوقع منها إنقاذ السوق المالية الغربية

هذه الإمكانات وغيرها كثير(المساحة الجغرافية والموقع والموارد المعدنية والفلاحية والأسطول البحري ومؤسسات البحث العلمي…) هي التي تؤهل دولة كالصين لأن يكون لها دور مشهود في التأثير في السياسة الدولية المستقبلية فكيف ذلك؟

ثانيا- ما هي آثار صعود الصين في السياسة الدولية العالمية؟ وفي العالم الإسلامي؟

نظرا للاعتبارات السابقة أصبحت الصين ـ في الوقت الحاضر والمستقبل المنظورـ تشكل القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الصاعدة والتي يمكن أن تنهي عصر الهيمنة الأمريكية والقطبية الأحادية التي تفردت بها الولايات الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي  وأصبحت الصين في حاجة ماسة إلى الانفتاح الخارجي إقليميا ودوليا لحاجة اقتصادها لذلك .الأمر الذي يزعج المنافسين الكبار كاليابان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا لأن ذلك يعني احتلال مواقع والاستثمار في مناطق عدة منذ زمن بعيد حكرا على هؤلاء اللاعبين الكبار ،ونظرا لهذه القوة والقدرة المتينة التي أصبحت عليها دولة الصين فقد بات الغرب كله يعيد ترتيب أوراقه مرة بتهديد الصين واتهامها في قضايا حقوق الإنسان وإخفاء الحقائق عن ميزانيتها الحقيقية في الإنفاق العسكري وإبداء مخاوف من مشروعها النووي … ومرة بالتلويح بأن الصين ليس عدوا وإنما يمكن أن يكون شريكا اقتصاديا وسياسيا للغرب ، ومهما يكن فإن التأثير الصيني في إعادة رسم الخريطة الاقتصادية وتغيير موازين القوة السياسية واقتسامها مع اللاعبين الكبار في المستقبل القريب أصبح أمرا لا مفر منه ،فاكتساح الصين للأسواق الآسيوية (المحيط الإقليمي المباشر )والإفريقية (العمق الاستراتيجي) والغربية نفسها (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وخاصة بعد الأزمة المالية الحالية) ، والمنافسة الشرسة على موارد النفط لتأمين القوة الصناعية، هذا إذا أضفنا القوة النووية والعسكرية التي لا يمكن إغفال دورها في الردع وفرض الوجود في المنتظم الدولي للكبار والاعتراف بالمصالح وتأمينها وفرض احترامها، من شأنه أن يغير كثير من معالم النظام الدولي وخريطته وأحلافه وتكتلاته.. لكن ما موقع بلدان العالم الثالث عامة وبلدان العالم الإسلامي والعربي من هذه التحولات ؟ وكيف يمكن الاستفادة منها في الخروج من الهيمنة المهينة لأوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثا- ما هي آثار صعود الصين في تنفيس مشاكل العالم الإسلامي؟

أولا: يمكن القول إنمنطقة العالم الإسلامي عاشت ما عاشته دول الشرق الآسيوي من استعمار مهين واستقلال مزيف ، وكانت محاولات التخلص من هذا الاستعمار والتبعية في المنطقة الإسلامية والشرق الآسيوية على حد سواء لكنها نجحت هنا ولم تنجح هنا ، وكم أسيل من مداد في القرن الماضي للإشادة بنجاح النهضة اليابانية  والتباكي على فشل النهضة عند العرب والمسلمين مع أنهما انطلقا في نفس اللحظة التاريخية، وخلال هذا القرن بدأت تعلو أصوات في الانبهار بالتجربة الصينية وتجربة نمور آسيا وارتفاع سياط نقد الذات وجلدها مرة أخرى رغم أن منطقة العالم الإسلامي منطقة جيواستراتيجية وتمتلك من القدرات البشرية والطبيعية والثقافية ما يجعلها تنطلق بقوة.وإن كنت لا أقصد هنا الجواب والكشف عن مختلف الحيثيات التي حالت دون ذلك، إلا أنني كمسلم أحمل نفس التساؤلات والهموم.

ثانيالست ممن يقبل كليا بالقول إن التعددية القطبية وبروز الصين واليابان وروسيا ونمور آسيا ودول أمريكا اللاتينية ستؤدي بالعرب والمسلمين بالخروج من الهيمنة الغربية والأمريكية تلقائيا، فهذا لا يقول به إلا جاهل بالسنن الربانية وقوانين التدافع الحضاري التي تستلزم من الأمم والشعوب التخطيط والعمل وبذل الجهد بكل معانيه لاكتساب القوة ، ولن تتخلص هذه الشعوب من التبعية والهيمنة للغرب بمجرد نهوض غيرها وإلا ستقع مرة أخرى في التبعية للكونفوشيوسية  وشيوعية الصين وهيمنة مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية… ولن تكون تلك الهيمنة أحسن من هذه وإنما الذل والتبعية واحد وإن تعددت صورها بين أبيض وأصفر، وما الغزو التتري والمغولي وتدميره لكثير من كنوز حضارتنا عنا ببعيد.

فضلا عن أن التقارب بين الغرب والصين وارد وواقع ضد مصالح العالم الإسلامي، فلا ينتظر من الصين مناصرة القضايا الإسلامية ومعاداة الغرب مبدئيا أما من حيث المناورة السياسية فيمكن أن يكون ذلك في الظاهر دون الباطن.

ثالثا: لن يكون للمسلمين موقع شهود إلا بانتهاج سبل اكتساب القوة الذاتية والاعتماد على المقومات الذاتية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا ورسم الخطط والاستراتيجات الكفيلة بتحقيق التنمية الشاملة والصحيحة، المؤدية للسيادة  والريادة  والاحترام الدولي المتبادل

رابعا : الاستفادة من تعدد القطبية رهين بمدى القدرة على ممارسة القرار الذاتي والإرادة الحرة والمستقلة في تدبير موارد الأمة والتفاوض مع الشركاء الدوليين من موقع المسؤولية والأمانة والغيرة على ممتلكات الأمة ومصالحها من غير انصياع لإملاءات أو إغراءات أو تهديدات، فهل تمتلك الحكومات في كثير من بلدان العالم الإسلامي هذه الإرادة؟ وهل نتوفر على القدرة على التسيير الذاتي والتدبير الرشيد لمواردنا البشرية والطبيعية ؟ وهل نمتلك الجرأة في صنع مستقبلنا وتثبيت حقنا المشروع والعادل في وجودنا التاريخي ومشاركتنا في إفادة البشرية بما نمتلك من خيرية وهدى ورشاد نكاد نحمله أسفارا دون أن نصنع منه أخيارا أو نفيد به أحرارا؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>