أيعقل هذا؟!
الإمام نفسه يحضنه.. يربت عليه.. يستمع إليه، ويهمس له! “بُوقَرْعَة”، ذلك المشرد السكير.. لا أحد يعيره اهتماما.. رغم أنه ابن هذه المدينة.. شبح ذكرى تاجر كبير.. أفلس في لمحة بصر.. وأصبح منبوذا، مشردا بين القمامة عند مدخل المدينة العتيقة.. أسماله رثة، رائحته كريهة.. لا تبرح زجاجة الخمر يده.. يهذي.. يبكي في هستيريا.. يترنح..يسقط.. يتمالك نفسه لينهض فيسقط ثانية.. يثير ضحك المارة.. يدنو منه رجل بجلابته البيضاء وسمته الوقور.. يصيح أحد المارة :
- آلإمامْ… آسي الفقيهْ. إنه نجس.. ابتعد عنه “انْعَامْ آسْ”!
لكن إمام جامع الحومة يحضنه.. يمسح دمعه.. يربت عليه.. يهمس له.. ترى، ماذا يقول له؟!
يتكرر المشهد مرات في اليوم.. الناس حائرون، يتساءلون : “بوقرعة نجس”.. فكيف يحضنه الإمام، ثم يصلي بنا؟! وهل صلاتنا صحيحة وراءه؟!
وعلق بعضهم: “الله يستر.. قد يبتلي السكير الإمام ببلواه، فيصبح مثله!” وزادت حيرتهم حين أصبح ذات يوم ذلك المشرد نظيفا بثياب جديدة… ثم اختفى، كأن الأرض ابتلعته.. أين هو؟!
حيكت حوله حكايا متضاربة.. ولا أحد يعرف السر!
سألوا عنه الإمام.. غير أن كل ما قاله : اسمه محمد.. السي محمد.. لا تعينوا عليه الشيطان.. حرام مناداته بتلك “الكنية”…!
بعد مدة طويلة.. كشف محمد نفسه عن سره :
“لم أنس أبدا تلك اليد البيضاء التي كانت تربت علي.. إحساس لا يمكن أبدا تفسيره.. كان يحضنني الإمام.. وكانت كلماته تتسرب إلى قلبي كالنسيم.. أحببت ذلك الإمام، وظننت حينها أنه الوحيد الذي يحبني.. لكنه (باكيا) أخبرني أن الله عز وجل يحبني.. أعادني إلى الحياة.. تبت.. وعولجت من الإدمان.. وها أنا أعمل عملا شريفا بمدينة بعيدة.. والحمد لله.. فما أحلى التوبة.. وما أحلى الطريق المستقيم.. ولا أحب أبدا أن أتذكر الماضي وأصدقاء السوء…!