عـن سيـريـلانـكا التي فـي القلب سـأحـكـي – يا خيل الله اركبي


1- يا خيل الله اركبي

إذا عرف السبب  في غيابي الاضطراري،  بطل العجب قارئي اللبيب.. فقد اقتسمنا في هذه الفسحة المباركة رغيف الكلمات الصادقة والمشاعر المضطرمة، حرقات لا تعد ولا تحصى، ونحن نقف عبر محطات منبر المحجة الكريم أمام بنيان الأمة السامق في واجهات.. والمتداعي في واجهات أخرى.. نقلب النظر في أمشاج فسيفسائه، الأصيلة بلطف رباني حفظ له على مر التاريخ حوضه، والمرقعة  في نفس الآن بفعل الرياح الدخيلة.. ومن تلك الفسيفساء كنا نمتح زاد أوراقنا هذه..

ولطالما لفنا الحزن لظواهر شاذة ترتع في أمن بخرائطنا، كما هدهدنا الفرح المتعثر لخيرات وئيدة  تطل ببراعمها على محيطنا المنكوب بنكوص واختلاف قلوب أبنائه ، قبل المتربصين من الخارج بسقطاته.

وشاء المولى عز وجل أن يمنح لقلمي فسحة مشاهدة أوسع، ويزودني  بذخيرة معلومات ومشاعر وانطباعات عن رقعة جغرافية جديدة تجاوزت العالم العربي إلى العالم الإسلامي، وبالضبط جنوب القارة الآسيوية بجزيرة سيريلانكا..

لقد صدق في حالي قارئي الكريم قوله تعالى : {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء  وإليه ترجعون}(يس : 83).

جاءت الدعوة بإذن رباني حمل لي تفاصيله زوجي الكريم الذي كان يعد لرحلة دعوية رفقة ثلة من الإخوة..

وتمت الإعدادات الإدارية بيسر و بسرعة مذهلة كانت تؤكد لي يوما عن يوم أن المأدبة ربانية وصاحب الدعوة هو الله عز وجل،  ولحكمة لا يعلمها  إلا هو سبحانه كان يجب أن أطير جوا إلى منطقة جد بعيدة ترابا وموقعا، جد قريبة بمشاعرها الدافقة بالحب لدين الإسلام .. كان يجب أن أرصد بفضل المولى نبضات ودبدبات  شعب مسلم يرزح أعزلا تحت ثقل غربة كاسحة إذ لا يرى صوب ناضريه أينما حل أو ارتحل إلا سحنات الشرك المبين والعياذ بالله.

ولنشرع في سرد بدايات رحلة ليست ككل الرحلات.. إنها رحلة أليمة بكل المقاييس، أنهيتها ولا زالت تفاصيلها تعذبني حتى لحظة كتابة هذه السطور إذ ودعت إخوتي السيريلانكيين ذات صباح وسط جو مفعم بالحزن وهم يبكون حرقة لاضطراري للعودة إلى أرض الوطن..

كنت أقول لهم سنلتقي وسنتزاور بإذن الله تعالى.. وكانوا يردون بأن السفر إلى المغرب من سيريلانكا جد مكلف ولا طاقة لهم به.. وبالتالي فاللقاء في الجنة هو غاية حلمهم.. وسنعود بتفصيل إلى لقاء الوداع   في حلقات قادمة..

وفي المقابل حملوني رسالة جد مؤثرة مفادها :

أينكم أيها العرب يا أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فهل من مجيب؟؟

2- وانطلق الرحيل إلى ذاتــنا الأخرى :

فجرا يممنا صوب المطار..استغرقت الإجراءات الإدارية طيلة الصباح وأنا قابعة في مقعدي الدافئ  أنثى معززة مكرمة أطالع صحفي أو ألهج بأذكاري وأحمد الله على نعمة الإسلام التي جعلت الرجل في خدمة المرأة، ولو كنا  ركنا إلى مساواة الغرب الميكانيكية الملعونة لكنت الآن ومثيلاتي  كخرقة المطبخ، أسيح عرقا وأنا أركض بين مكاتب الحجز والختم والهواتف والمراقبة والفحص والملء الذي لا ينتهي للوثائق والأوراق إلى جانب زوجي..  فاللهم أدمها نعمة وأدمه إحساساً..

أخيرا انطلقت بنا الطائرة صوب  بلاد قطر لتقلع بنا طائرة أخرى صوب سيريلانكا..

القلب يخفق والعينان تمسحان أديم سماء ليلية لا تبين إلا عن أزيز عملاق يخترق السحاب ويمضي بنا فو ق بلدان تغرق في ظلام دامس.. وداخل الطائرة شدتني وجوه الهنديين وملامحهم القلقة التي كانت تتطلع إلينا بفضول مشوب بخوف لم يستطيعوا إخفاءه.. وخمنت إلى أي حد جعلت أسلحة الدمار الإعلامي الشامل،  الغربية ، الحجاب  واللحية مرادفين لكل ما من شأنه زعزعة أمن النفوس.. والأماكن، حد إرباكنا وحرماننا من متعة التأمل في ملكوت المولى عز وجل ونحن بضيافته في الأعالي..

وكان أكثر أولئك الهنود فضولا وانزعاجا منا،  راكب يجلس في المقعد المجاور لزوجي.. ظل يحدجني وإياه ويلتفت ذات اليمين والشمال خوفا من كوموندو مفاجئ يخرج من تحت جلبابي ويفجر الطائرة..

وظل سجين قلقه المثير للشفقة حتى انتابته نوبة جرأة زائدة فاقتحم صمتنا بسؤاله عن جنسيتنا..وجاء جوابنا هادئ  النبرة لطيف الكلمات عن انتمائنا لشمال إفريقيا وبالضبط إلى المغرب, فانفرجت أساريره لكون جذورنا ليست شرق أوسطية، وانتشى أكثر حين حدثناه باللغة الإنجليزية وعرف أننا من فئة المثقفين لا من فئة (هواة المتفجرات).. ورأيناه يتبادل ورفاقه الهنود نظرة ذات معنى تفيد أن الأجواء صافية وأن خوفهم البليد ليس له ما يبرره..

بعد ذلك سيحدثنا هذا الهندي الداكن السحنة عن وظيفته كرجل أعمال دولي يتاجر ورفاقه على متن تلك الرحلة في الشاي السيريلانكي..

وظل في كل مرة يسألني عن وضعية المرأة المسلمة بشكل غير مباشر..وثقتي وعزتي بديني تغمسني في ردود ضافية كانت ترج كل قناعاته الواهية الزائفة حول المرأة المسلمة، وتفتح عينيه على مصراعيهما  للانبهار..بل كنت أنتقل إلى موقع الهجوم الحضاري بإحراجه في قناعته البوذية البلهاء التي تجعله يسجد للحجارة وهو في طوله وعرضه ورجاحة عقله المزعومة، إذ يحاول استفزازي وزوجي في ديننا بترديد فقاعات الإعلام التافهة..

وحمدت الله على ذلك الزاد القليل من اللغة الإنجليزية وعلى معارفي الإسلامية التي جعلتني أدافع عن ديني بكل ندية.. ووجدتني أردد بداخلي بكل اعتزاز لبيك يا رسول الله  لبيك يا رسول الله وأنا أفحمه بكل لياقة وأدب، وأكسر قناعاته..

ومع ذلك فلم يستطع التخلص التام  من نظرات الريبة التي كانت تخونه أمام لحية زوجي..ورمقت رعبا مفاجئا يستولي عليه هو ورفاقه حين نهض زوجي وتوجه إلى المرحاض فقد تبادلوا بضع كلمات ودوت صفارة الإنذار بداخلهم فهبوا واقفين وتسمروا في ممر الطائرة وعيونهم موزعة بيني وأنا أفتح حقيبتي لإخراج منديل  وبين باب دورة المياه حيث زوجي، وخمنت أن كل السيناريوهات الهوليودية التي يتابعونها في محطات الغرب حول العمليات الإرهابية تتعاقب الآن بكل عنف وقسوة في مخيلاتهم وأذهانهم المرتهنة لمخططات صهيونية أرعبها المد الإسلامي فصورت مئات أفلام الرعب عن العرب والمسلمين  وزرعتها في شاشات أدمغة بل قلوب المتفرجين مجرد خزعبلات، لتجعل بينهم وبين باقي الأقوام سدا أصلب من سد يأجوج ومأجوج.. إلا أن السحر انقلب على الساحر والفتح الإسلامي في أصقاع العالم ماض في خط تصاعدي والحمد لله..

وعاد زوجي إلى مقعده وانقشعت غيوم القلق وعاد ضيفنا الهندي ليناوشنا، ونرد له  كيده بالتي هي أحسن.. والليل الساجي يذكرنا بموعد الأكل الذي تقدمته عربات المشروبات الكحولية على خطوط إسلامية يا حسرة، فانشغل مراقبونا باحتساء مذهبة العقول وانغمسنا في التأمل في خلق المولى عز وجل مستعرضين قوله تعالى :

{إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران : 190).

وانبلجت الخيوط الأولى للصبح واستسلمت عيناي المبهورتين لروعة زرقة مياه المحيط  الهندي وهي تلتف حول جيد جزيرة سيريلانكا كعقد بلوري مهيب، وانطلق صوت المضيفة  عسليا متكسرا، وهي تعلن عن دخول الأجواء السيريلانكية.

.. وأخيرا بدأت عملية الهبوط المتأني…. ثم والطائرة  تستقر على أرضية المطار انحنى لنا رفاقنا الهنود تباعا بأدب جم  وهم يودعوننا ويتمنون لنا رحلة دعوية موفقة، ويحمدون الله حتما على أن جثثهم لم تطفو فوق سطح مياه المحيط الهندي.

والأجمل أكثر،  وبلا شك، أن مخيلاتهم اختزنت صورة جد طرية  ومشرقة عن حقيقة الإسلام وجمالية دعوة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم..

تلك الحقيقة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يرافق عجوزا ويحمل عنها حاجيات ثقيلة ويسمع منها طول طريق طويل حتى بيتها سبا وشتما في  رجل يدعى محمد بن عبد الله،  فرق بين العرب رجالا ونساء وأبناء بدينه الجديد والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد إلا بصمت حكيم حتى إذا أبلغها حيث أرادت وسألته عن اسمه قال أنا هو محمد بن عبد الله فلهجت بدخولها الإسلام  وهي في غاية الانبهار من خلق رفيع يرد السيئة بالحسنات..

ولاشك أننا بصمنا  إلى الأبد ذلك الهندي ورفاقه ونحن نحدثهم عن روعة وجمالية  الإسلام قولا وفعلا  ونسكب بذلك قطرة في محيطات جهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين  الذين أدخلوا هذا الدين العظيم إلى سيريلانكا  سنتين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أي في السنة الثانية للهجرة..

وللحديث بقية

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>