يا عبد الله!!… أبصر حقيقتك!!


د. إبراهيم بن البو

يا عبد الله!!…من أنت حقا؟ ومن تكون؟… هل سألت نفسك مرات تلو المرات، من أنت؟ وسعيت حثيثا لتعرف الحقيقة؟… هلا سألت الآخرين لما عجزت عن تحصيل المراد؟ فدواء العي السؤال.

قد تسأل بعض من يصنفون أنفسهم في زمرة “العقلاء والحكماء” فيجيبونك على الفور: أصلك الحقيقي -كما أثبت العلم اليقيني- قرد، تطورت خلاياك وتعرضت لطفرة فصرت ما صرت إليه، إنسانا لا حيوانا، تسمع ذلك بأذنك وأنت حاضر القلب فتحاول إقناع نفسك بما سمعت فلا تجد لذلك سبيلا، وتحاول أن تتلقى الإجابة ” العقلانية” كما وصفوها وتنزلها على كلياتك فتجد الأمر هراء في هراء وهرطقة لا عقلانية فيها ولا صدق.

وقد تسأل من أعياهم البحث عن الحقيقة ووقفوا أمام عقبتها حائرين ولم يقتحموا، فلما عجزوا قالوا: “إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع”، قد يحاولون إقناعك بعدميتهم فلا يستطيعون ذلك، وأنى لهم وكل ذرة فيك تعلن وبصوت عال: “لا يمكن أن يكون خلقي عبثا ولا لعبا”.

قد تسأل وتسأل، وقد تكرر السؤال على الكثيرين، دون أن تجد الإجابة التي إن أنزلتها على كينونتك تجدها لباسا ملائما لا يطول ولا يقصر ولا يتسع ولا يضيق، لأنك أخطأت مصدر المعلومة الحق، وحدت عن الحق صاحب الإجابة الحق، {فماذا بعد الحق إلا الضلال}(يونس :32).

لن تجد مبتغاك ولن تحصل على مرادك إلا إذا سألت خالقك وخالق الأكوان السيارة من حولك، العارف بحقيقتك وحقيقة ما ركب فيك، العليم بمظهرك ومخبرك، والمطلع على حالك ومآلك، فيرشدك إلى دليله المنزل من عنده إليك، لتعرف مرادك بنفسك، مخاطبا إياك: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون}(فصلت: 1- 2).

افتح كتاب ربك بنية الباحث عن الحقيقة، واتل ما تيسر لك من آياته تلاوة الواعي المتبصر، وتدبر ما قرأت تدبر من يروم استخلاص الدرر والجواهر واستنباط الحقائق،مستعينا ببيان نبيك،  وداوم السير على طريق النور بنفس المنهج، فسترى الحقيقة الكلية عن ذاتك منتظمة أمامك في عقد فريد، تناديك: يا عبد الله!!….

 أنت.. من خلق الله:

فلا تصدق من أخبرك عن طبيعتك من نتاج عقله المحدود، وأَيْقِنْ بما أخبرك به الحق من حق، فهو العليم الخبير بك وبسواك من أفراد الخلق: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(الملك :14).

إنك -كما قدر خالقك- من سلالة من طين، أصلك من طين نفخ فيه الخالق من روحه، فتحول الطين الساكن خلقا آخر، خلقا حيا فاعلا ومنفعلا، قال جل ذكره: {إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(ص : 71)، وقال عز وجل: {ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين}(المومنون : 12).

وإذا أردت المزيد من هذه البينات النورانية، فألق سمعك لمن اصطفاه الخالق لحمل الرسالة الخاتمة الخالدة ليشفي غليلك بجوامع كلمه: >خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب<(أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، ح 2879 ، وقال : حديث حسن صحيح).

لقد عرفت أصلك، فكيف صرت أنت إلى ما أنت عليه؟ خلقا آخر: {ثم أنشأناه خلقا آخر}(المومنون : 14)؟ إنك  خُلِقت أطوارا: نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم أرسل إليك الملك من البارئ عز وجل فنفخ فيك الروح ، فصرت روحا في جسد وجوهرا في عرض، قال رب العالمين: {ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين}(المومنون : 12- 14)، وقال الصادق المصدوق: >إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد<(متفق عليه).

أنت.. عبد لله:

إنك عبد مملوك لله تعالى {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك}(الانفطار : 7- 8)، أذن بوجودك فألقى سر الحياة فيك، وله الحق وحده في سلبه، كل ذرة فيك تلهج بعبديتها له سبحانه: فإرادتك ومشيئتك لا تعلو على إرادته ومشيئته تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}(التكوير : 29)، وقلبك بين أصبعيه سبحانه يقلبه كيف يشاء: >قلب ابن آدم على إصبعين من أصابع الجبار عز وجل، إذا شاء أن يقلبه قلبه<(رواه أحمد)، بل حركاتك وسكناتك وكل حياتك  من تقديره سبحانه.

فلا تنس أبدا عبديتك لخالقك المتصف بكل صفات الجلال والجمال والكمال، وتذكر أن لب عبديتك له سبحانه وتعالى إعلان افتقارك بين يديه، قال جل شأنه: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله  والله هو الغني الحميد}(فاطر : 15).

وحقيقة فقرك -كما ذكر العالم الرباني ابن القيم رحمه الله- “أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر” (مدارج السالكين، 2/440)، والمراد من ذلك كله أن تجرد نفسك وتخلصها من كل حظوظها وأهوائها وتقبل كلية على ربك عز وجل، متذللا بين يديه، مستسلما لأمره ونهيه، متعلقا قلبك بمحبته وطاعته، وحالك يقول: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام : 164- 165).

ولتتشرب هذه الحقيقة ويرتوي بها كل كيانك، شرع لك من له الأمر والنهي عبادات قلبية وعملية، منها ما يذكرك بها خمس مرات على الأقل في كل يوم، ومنها ما يحقق هذه المهمة خلال كل أسبوع أو كل شهر… فتأمل صلاتك باعتبارها عماد الدين، تجد أنها تربيك على الوقوف بين يدي ربك خاشعا متذللا وفي سكينة ووقار، إنك تخفض رأسك وتنظر إلى موضع سجودك لتبدأ بالتكبير معلنا تعظيمك التام لله وحده، ثم تتدرج في مقامات الافتقار حتى إذا وصلت إلى مقامي الركوع والسجود طأطأت رأسك وعفرت ناصيتك بصعيد الأرض منيبا إلى خالقك تسأله أن يقبلك عبدا مطيعا وأن يعمك برضاه. وحتى ترتوي من شلالات هذه المقامات وتتطهر من مائها وتتشبع نفسك من انسيابها، ما عليك إلا أن تسلك هدي نبيك القائل: >فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم<(مسلم، كتاب الصلاة، ح 479).

وأَيْقِنْ حق اليقين أن إيمانك بفقرك يستلزم إيمانك بعظمة وجلال خالقك، فتدبر آيات وأحاديث الصفات والأسماء لتشعر بدقات قلبك تزداد وجلدك يقشعر وكل أعضائك تسكن وتخشع تعظيما لمقام الرب وهيبته وجبروته، قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه }(الزمر : 64)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : >يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟<(مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ح 2788).

أنت..عبد مكرم من الله:

إنك وإن كنت من خلق الله، إلا أنك مفضل ومكرم على كثير ممن خلق: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الإسراء : 70).

وأصل تكريمك تكريم أصلك آدم \، إذ خلقه ربه تعالى بيديه ونفخ فيه من روحه تشريفا له وتعظيما، قال عز وجل مخا طبا إبليس اللعين: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}(ص : 74) وقال جل ذكره مخاطبا ملائكته: {إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(ص : 71). فقد جعل فيه ربه شيئا من روحه ليصلح بعد لحمل ما سيكلف به من أمانة الاستخلاف، وليصلح بعد لتلقي الهدى الرباني الذي هو أيضا روح من جنس الروح التي نفخت فيه، قال تعالى: {وكذالك أوحينا إليك روحا من امرنا}(الشورى : 49).

يضاف إل ذلك إسجاد الملائكة له سجود تكريم رغم نفاسة عنصرهم وسمو مكانتهم، إنهم عباد من نور جبلوا على الطاعة، إلا أن النور سجد للطين لما تنور بالنفخة الإلهية : {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا}(البقرة : 33)، فكان من وظائفهم خدمة الإنسان وخدمة الكون الذي هو أيضا في خدمته.

ومن أعظم مظاهر هذا التكريم الإلهي -وهي كثيرة- أن مَنَّ عليه بالخلافة، فكلفه دون غيره من المخلوقات صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها بعمارة الأرض بالخير والعدل والحق وإدارتها وتسييرها بمنهجه تعالى، بعد أن أهله بالعلم ومنهج تصحيح الخطأ، قال تعالى: {إني جاعل في الارض خليفة }(البقرة : 29).

فبتكريم أصلك كرمت، كما كرمت أيضا بتسخير جميع ما في السماوات والأرض لخدمتك: {ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض}(لقمان : 19) وإنزال الهدى لتبصيرك بالطريق الذي يحقق لك السعادة في العاجل والآجل:{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}(الفرقان : 1)، غير أنك لن تحافظ على تكريمك إلا باتباع المنهج الرباني الهادى إلى كل مكرمة وخير، فإذا حدت عنه اجتالتك الشياطين فألقت بك في غيابات الظلام ومستنقع الرذيلة والشهوات، وفي ذلك إهانة لك ما بعدها إهانة، {ومن يهن الله فما له من مكرم}(الحج : 18).

حقا إن أمرك يا عبد الله لعجيب!! هذا بيان الله أمامك جلي كالشمس ثم تتركه وتلهث وراء السراب!! فيا للعجب العجاب!!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>