بين الجزء السابق من المقال أن جوهر الدين هو العبادة وجوهر العبادة الصلاة، وأن الإنسان ليس إلا عبدا كونيا حاملا رسالة رب العالمين، وعليه أن يتصل بربه في أوقات محددة الوقت والحكمة، ولابد لهذه الصلاة من شروط في نقاء الباطن والظاهر (الوضوء) وفي هذه الحلقة يواصل المقال حديثه عن جمال الصلاة…
مع الغر المحجلينفما أبطأ بك إذن يا صاحبي؟ هذي جموع المؤمنين سارعت إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم القيامة، يرِدون حوضه الكريم، بأوسمتهم النورانية: كانت الخيل وهي مقبلة فأل خير، ترفع غُرَرَها البيضاء نحو سماء الانتصار، ولقوائمها المحجّلة -وهي تباري الأسنة راكضة- جمالٌ، لا يضاهيه إلا جمالها وهي تقف هادئة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه أغَرَّ وأطراف محجَّلة. وإنما ذلك في المؤمن نور يكتسبه بسبب ما كان يحلي به وجهه وأطرافه من طهارة، في مسرى العبادة، السالك إلى الله.
فلتسبغوا الوضوء على المكاره إذن سادتي الأتقياء، فإنكم >أنتم الغُرُّ المحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله<(متفق عليه). تلك سيم الجمال في وجوهكم، وأطرافكم يوم تَرِدون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سِيَم >ليست لأحد من الأمم<(متفق عليه)، بها تُعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دلجة الفضاء.
هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبدا. فإذا النبي الكريم يميز المحبين وسط الزحام واحدا واحدا: >ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة<، قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: >أرأيت لو دخلت صُبْرة (محجرا) فيها خيل دُهْم، بُهْم، وفيها فرس أغر محجل، أما كنت تعرفه منها؟< قالوا: بلى. قال: >فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلُون من الوضوء<(رواه أحمد).
هذه قصة الماء الطهور في جداول السلوك إلى الله. وفي الماء سقاء لدالية الشعور بالرضى الرباني، والقبول للمثول أمام جلال الله. ألا ما أعمق الفرق في الغصن الواحد بين زمانين: الأول سنوات عجاف، لا نضرة ولا نعيم، ولا صدى لصهيل إلا قعقعة الحطب في ليالي الريح.. والثاني عام فيه يغاث الناس، فتتسلق الدوالي أغصان البروق، ويحتفل المطر، فإذا الأشجار مورقة ريانة، وإذا صفوف المصلين تتراص عند فاتحة الزمان الجديد، والوجوه مازالت ترشح بماء الطهور… وتكون الصلاة… >والصلاة نور<(رواه مسلم).
كانت كلمات الإقامة إشعارا ثانيا -بعد الأذان- بضرورة نفض كل ما بقي من علائق التراب قبل الإذن للأجنحة أن تقلع في طريقها إلى مقام المحبة: >قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة!< وترتفع الأيدي المحجلة تجاه القبلة في تكبيرة الإحرام، لتفريغ البال من جميع الأحوال، إلا حال الفقر المرفوق بالشوق إلى الغني الحميد، ثم تتأدب بالتزام الصدر في وقفة العبد بين يدي الملك العظيم، تأسيا بجمال الامتثال في قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في وقوفه بباب الله >يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد<(رواه أبو داود والنسائي)، و>كان يضعهما على الصدر<(رواه أبو داود)، ثم تشرق التجليات…
القِبلة جامعة الأفئدةوالقِبلة جامعة لشتات القلب والبصر، وإنقاذ للعبد السالك من مقام الحيرة إلى حدائق الطمأنينة، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة:144).
وكيف لا يحتار هذا الفكر الجزئي البسيط، القابع في مدار كوكب ضئيل، يدب في بحر لُجِّيٍّ من الكواكب والمجرات، وتيه من العوالم والمخلوقات، مما يستعصي حتى على مجرد التصور الشامل والاستحضار الكلي… فكيف إذن لا يحتار هذا الفكر المحدود المنحصر، وهو بصدد الاتصال، وعلى أعتاب المناجاة مع رب هذه العوالم المحيط بجميع هذه المخلوقات…
فلتكن القبلة إذن قنديلا آخر في طريق التعبد يجمع المصلين في العالم أجمع حول قلب واحد، ينبض بتوحيد الله ذي الجلال، ويبعث من مكة المكرمة أنوارا تتلقاها أفئدة العابدين في كل مكان “أن هلموا، هذا بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس”، فتحج الأرواح من محاريبها خمس مرات في اليوم… “الله أكبر!”
كأن سيف النور قد قطع الزمان نصفين، الأول إلى خلف، فما زال راكضا في تغيره يذوب فناءً بذوبان الأشكال والألوان المتهاوية تترى، في عالم الأوراق السافرة بين ربيع وخريف، ولا برعوم يورق مرتين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}(الرحمن:26- 27). والثاني إلى أمام، ما يزال متوجها إلى مقام البقاء، فالنور المتجلي على الغرر البهية مستمد من معين لا ينضب. والعبادة لحظة تستمد خلودها من مناجاة الحي الذي لا يموت، فتفنى الذوات عند آجالها، وتبقى لحظات الصلاة حرما آمنا لا يناله أثر الزمان، ليرسم نعيما سرمديا بقناديل تستمد زيتها الوضاء من مشكاة الله، ويُتَخَطّفُ السعي العابث من حوله، فإذا هو محض سراب.
الـمناجاة بين الخالق والمخلوقكان الوارد نورا يهمي من أعلى، فينفتح القلب بكلمات من نور آخر، فإذا اللحظة مناجاة بين الخالق والمخلوقات.
أنت الآن أمام جلال الله، تقدم إيمانك إخباتا بين يديه تعالى، والقلب مفتوح الأبواب، فلا شيء به يبقى مستورا. وقد تنتابك أدخنة الطين رياء ونفاقا، ما بين الذرة وأقل، فتفر إلى ربك مذعورا. وتناجيه حزينا أن أبرئني يا سيد هذي الأوراد مني… >أوَ لست تصلي” و”إنَّ أحدكم إذا صلى يناجي ربه<(رواه البخاري).
عجبا! فأي قوة ما زالت تصمد في ساقيك، فتمتثل وقوفا أمام عظمة الواحد القهار، والجبل قد اندكّ وراءك من خشية الله؟ أن تصلي يعني أنك تقابل ربك غصنا منفوض الأوراق… فأنت كما أنت، لا تخفى منك خفقة قلب واحدة؛ صَفَتْ أم خالط دمعتها ريحُ الحمأ المسنون… و>إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله قِبل وجهه<(رواه البخاري)، والله قَبل ذلك وبعده {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر:19). فكيف يمكن لهذا البصر أن يمتد قيد أنملة نحو السماء، والرب بجلاله قِبَلَه؟ إذن تندكّ ضلوعه، فيخر القلب صعقا، ولا يبصر شيئا بعدها أبدا. كان التحذير النبوي حريصا على أمر المحبين بالتزام آداب المحبة حتى لا تستحيل حديقة النور إلى ظلام دامس. قال صلى الله عليه وسلم: >لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم<(متفق عليه).
وأما التفات عن يمين أو شمال فهو >اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد<(رواه البخاري). وأنّى لعبد في مقام الخضوع أن ينصرف عن مشاهدة الجمال بقلب ملؤه التقوى والورع؟! وأنى لعبد في مقام الخضوع أن ينصرف عن تذوق كؤوس الترتيل الطافحة بشهود الفلاح؟! كيف و{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(المومنون:1-2).
يا لآيات البهاء تنطلق كلماتها من ألسنة رطبة بذكر الله، مصطفة مثلما تَصُفُّ الملائكة عند ربها… وكيف تَصف الملائكة عند ربها؟ قال: >يتمون الصفوف الأُوَلَ، ويتراصون في الصف<(رواه مسلم).
ألا صلى الله عليك يا رسول الله! أصَفٌّ في الأرض، وصف في السماء؟ والصلاة جامعة؟ هكذا إذن تخف الأجنحة المثقلة بأحزانها، وتنطلق الأسراب محلقة لمزاحمة الملائكة في مدارات النور عند أعتاب ملك الكون الظاهر والباطن.
ألا ما أشقى ذلك الجمل الشارد في صحراء الظلمات… لا يفتأ يلهث راكضا خلف سراب مال متسخ، حتى يتسخ وبره وتنتن رائحته، فيرين على قلبه ما يحجب رؤيته لجدول الصلاة الرقراق، وراء رمال العصيان، ثم يموت يلهث عطشا دون ظل المورد العذب. وما بين استحالة الموت ميلادا إلا أن يركع لمالك خزائن القطر، فإذا القفر حواليه حدائق ذات بهجة، ترشح غصونها بأنداء الطهور، نورا يصفيه من جميع الأدران.
كان البهاء يحيط الحبيب المصطفى، وهو في هالة صافية من أصحابه إذ قال: >أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من دَرَنِه شيء؟< قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: >فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا<(متفق عليه).
ويوقد الحبيب قنديلا آخر فيقول: >ما أدري أحدثكم بشيء أم أسكت؟< فقلنا: يا رسول الله إن كان خيرا فحدثنا، وإن كان غير ذلك؛ فالله ورسوله أعلم. قال: >ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها<(متفق عليه)، وفي ومضة قنديل آخر: >وذلك الدهر كله<(رواه مسلم).
هذا المسرى الربيعي إلى الله، رَغَبا في ينابيع الرحمة والمغفرة، تتعانق الصلوات فيه أقواسا من الدوالي المورقة، حيث تتشكل العناقيد قناديل خضراء، ترسم خطوات النور الهادي إلى الرحمن، فتختزل العدد والزمان، إذ بكل خطوة عشر خطوات في طريق الله، فقد فرض الله على نبيه صلى الله عليه وسلم -في السماء السابعة، وبغير واسطة الملاك جبريل \- خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم خففها سبحانه، اختزالا في خمس، ثم قال في الحديث القدسي: >يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة<(رواه مسلم).
أي فريضة هذه التي هي فضل كلها، ورحمة كلها، ونور كلها، وجمال كلها؟! وإن عبادة فرضت في السماء من غير واسطة الملاك؛ لحرية بالارتقاء صعدا بعشاقها إلى مقامات السماء.
فاصطبري يا أبدان على إدامة التطهر بنهر النور، فإن غصنا ينبت في جوار الغدير لا يجف أبدا، إن لم ينل من فيضه نال من نداه. والأمل يسري نضرة وجمالا في قده المياد ركوعا وسجودا.