لقد عني الإسلام بالعلم كأشد ما تكون العناية، وركز على طلبه وتحصيله كأشد ما يَكون التركيز، وأمر بتبليغه وحذر من كتمانه كأشد ما يكون التحذير قال تعالى : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}. وجاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم : >من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار< ومن خلال كثير من النصوص في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف من العلماء الربانيين التي لا يتسع المجال لذكرها، يتضح أن العلم بحر لا ساحل له، ولا يحيط به إلا علام الغيوب سبحانه، وامتداد ليس له نهاية إلا عند من كانت السموات مطويات بيمينه، هذا العلم أنزله الله تعالى على رسوله في كتابه وأنطق به خاتم أنبيائه ورسله فكانت أحاديثه الشريفة منهل كل طالب علم، وزاد كل متزود، وإرث كل وارث فالعلماء ورثة الأنبياء >وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم< ورَّثُوا العلم الذي به تكون الدعوة إلى الله تعالى. هذا الميراث تتبين أهميته عندما تُحَدَّدُ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم و أتباعه في قوله تعالى : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني…}. والدعوة إنما تكون بالحال والمقال.
والحال ليس له مثال أبلغ ولا أحسن ولا أروع من وصف أمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : >كان خلقه القرآن< فكان لزاماً على أتباع سيدنا محمد أن يتحلوا بأفضل الخصال.
وأما المقال فهو الوسيلة التي يُبَلَّغُ بها هذا العلم النافع النازل من رب العالمين.
وإذا كان العلم بحراً لا ساحل له، وامتداداً لا نهاية له، فإن من أهم أساساته القدرة على تبليغه إلى الناس كا فة وإيصاله إلى من لم يبلغه لإقامة الحجة عليه {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} ولتذكير المؤمنين عملا بقوله تعالى : {وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين}.
والقدرة على التبليغ، ومعرفةُ أساليبِ التبليغ، ومناهج التبليغ وأخلاق التبليغ، وآليات التبليغ… كلها مطالب يجب على كل من تجشم مصاعب الدعوة والبلاغ، ورفع راية التربية والتزكية، واعتلى منابر الخطابة والوعظ والإرشاد، وتحمل مسؤولية إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، أن يسعى إلى تحصيلها، لأن الدعوة إلى الله أشرف وظيفة بل هي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وتحتاج إ لى تظافر الجهود وتبادل الخبرات، ومزاحمة العلماء والأخذ عن الثقات. وإذا كان الله تعالى قد جعل من الناس خطباء ووعاظاً اختارهم واصطفاهم للنيابة عن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي المقابل هيأ أقواماً كثيرين جعلهم مستمعين و أمرهم بعدم الكلام أثناء إلقاء الخطب عليهم، فإن الواجب كذلك على كل خطيب وواعظ أن يتخذ له مجلساً يكون فيه بمنزلة المستمع من الخطيب، ليخضع عمله للتقويم والتصويب والتطوير.
ولتسليط الضوء على هذا الأمر حضرت المحجة أشغال الندوة التواصلية الأولى التي نظمها المجلس العلمي المحلي لمدينة فاس بتاريخ 6 ربيع الأول 1431هـ الموافق 21 فبراير 2010م لفائدة القيمين الدينيين من الخطباء والوعاظ والواعظات، وأطرها ثلة من العلماء الأفاضل والأساتذة الأجلاء في محاور متعددة الغرض منها تأهيل القيمين الدينيين والتواصل معهم، في بادرة هي الأولى من نوعها بهذا الحجم، على أمل أن تتلوها ندوات أخرى. ولتعميم الفائدة تنشر المحجة الأعمال الكاملة لهذه الندوة كما وعدنا في العدد الماضي ونسأل الله أن ينفع بها وأن يتقبلها بقبول حسن.