جريمة “الـموساد” في دبي


إقدام ‘الموساد’ الاسرائيلي على اغتيال محمود المبحوح أحد قادة الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية ‘حماس’ في فندق كان يقيم فيه بإمارة دبي، هو اختراق لأكثر من خط احمر:

‘ الأول: أن الجريمة وقعت في دولة عربية “معتدلة”، تتبنى توجهات ليبرالية اقتصادية واجتماعية، واستضافت قبل عشرة أيام وزيرا إسرائيليا شارك في مؤتمر حول الطاقة المتجددة.

‘ الثاني: فتح باب الاغتيالات السياسية خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما قد يترتب على هذه الخطوة من عمليات انتقامية ثأرية متبادلة في أكثر من عاصمة عربية وغربية.

فطريقة تنفيذ عملية الاغتيال هذه توحي بأنه جرى التخطيط لها بعناية فائقة، حيث قامت عناصر استخبارية بمتابعة تحركات الشهيد بدقة متناهية، منذ انطلاقه من دمشق إلى دبي، الأمر الذي قد يعني حدوث اختراق أمني، أو إهمال أمني، من قبل أجهزة حركة ‘حماس’، والأجهزة الأمنية السورية أيضا.

عملية اغتيال على هذه الدرجة من الخطورة، ولشخصية قيادية ساهمت في تأسيس جناح عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة ‘حماس’، وخططت ونفذت لاختطاف ومن ثم إعدام جنديين إسرائيليين، لا يمكن أن يقوم بها غير جهاز أمني على مستوى ‘الموساد’ الإسرائيلي.

وليس من قبيل الصدفة أن تحدث هذه العملية الإجرامية في عهد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته اليمينية العنصرية المتطرفة، ففي حكومته الأولى التي لم تعمّر طويلا، وفي ظروف سياسية ودبلوماسية مشابهة، أقدم نتنياهو على إرسال مجموعة من عملاء الموساد لاغتيال السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة ‘حماس’ في العاصمة الأردنية عمان في أيلول (سبتمبر) عام 1997 باستخدام سموم كيمياوية.

العاهل الأردني الملك حسين هدد في حينها بإلغاء معاهدة ‘وادي عربة’ للسلام مع اسرائيل، اذا لم يتم ارسال المصل المضادللسموم المستخدمة في عملية الاغتيال، وكان له ما أراد، حيث أذعنت حكومة نتنياهو لهذا الطلب فورا وسط فضيحة دولية.

‘ ‘ ‘

حكومة الامارات العربية المتحدة مطالبة بالتعامل بالحزم نفسه في مطاردة الجناة وتقديمهم إلى العدالة، وبالأسلوب نفسه الذي تعاملت به مع جريمة اغتيال الفنانة اللبنانية سوزان تميم، بل وبما هو أكثر صرامة، لعدم وجود مقارنة بين الجريمتين، فالأولى طابعها سياسي، والثانية جنائي.

شرطة دبي سارعت، وفي ظل الشفافية التي تتمتع بها، إلى إصدار بيان أكدت فيه كشف هوية الجناة، وجوازات السفر الأجنبية التي استخدموها لدخول البلاد وتنفيذ جريمتهم، والتنسيق مع البوليس الدولي (الانتربول) لإلقاء القبض عليهم.

فموقع دبي كمركز مالي وتجاري دولي هو الأكثر تضررا من جراء هذه الجريمة، لأن توفير الأمن يعتبر محور الارتكاز الرئيسي للحفاظ على هذه المكانة وتكريسها، إقليميا وعالميا. ولا نستبعد أن تكون إسرائيل قد قررت استهداف هذه التجربة وتقويضها من خلال هذه الجريمة، لابتزاز دولة الإمارات العربية المتحدة وإجبارها على خطوات تطبيعية، ضاربة بذلك عصفورين بحجر، أي تصفية شخصية قيادية عسكرية فلسطينية ‘دوّخت’ الموساد على مدى ثلاثين عاما، وإحداث اختراق تطبيعي مع دولة عربية ما زالت تتردد في إقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية مباشرة معها.

السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة ‘حماس’ حرص على التأكيد أثناء تقدمه موكب تشييع الشهيد المبحوح ابن مخيم جباليا البار، بأن أبناءه سينتقمون، وان كتائب الشهيد عز الدين القسام سترد. وعلمتنا التجارب الماضية أنها، أي كتائب القسام، إذا قالت فعلت.

السؤال هو أين ستتم عملية الأخذ بالثأر، داخل الأراضي الفلسطينية أم خارجها؟ وربما يفيد التذكير، تذكير الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين، بأن فصائل المقاومة الفلسطينية أربكت العالم بأسره، وأوقعت خسائر كبيرة بالإسرائيليين، وبثت الرعب في سفاراتهم وشركات طيرانهم، عندما نقلت المعركة إلى ميادين أرحب، وفي القارة الأوروبية على وجه الخصوص، في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

‘ ‘ ‘

نتنياهو يعيش أزمة سياسية خانقة، وتعيش حكومته عزلة دولية غير مسبوقة، فعملية السلام التي أراد استخدامها كغطاء لمواصلة استيطانه وتهويده للأراضي المحتلة معطلة بالكامل، والسلطة الفلسطينية قاومت بشراسة (حتى الآن) كل الضغوط العربية والأمريكية للعودة إلى طاولة المفاوضات، وجاء تقرير غولدستون حول جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ليفضح الوجه القبيح للنازية الإسرائيلية، ويصعّد من الكراهية تجاهها، أي إسرائيل، في مختلف أنحاء العالم.

لا نستبعد أن يكون نتنياهو، وفي ظل هذا الوضع المزري، يبحث عن ذريعة لشن عدوان على قطاع غزة أو لبنان، أو الإثنين معاً، فقد حاول اغتيال السيدأسامة أبو حمدان ممثل حركة ‘حماس’ في لبنان، بوضع سيارة ملغومة أمام مكتبه في الضاحية الجنوبية، ولكن المحاولة فشلت، وإن كان راح ضحيتها أحد عناصر المكتب، وها هو يرسل عملاء الموساد إلى دبي لتصفية الشهيد المبحوح لتحقيق انتصار صغير، ربما يدفع ثمنه غالياً فيما هو قادم من أيام.

علينا أن نتذكر أن مناحيم بيغن ووزير دفاعه في حينها أرييل شارون استغلا محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن موشي أرغوف، لاجتياح لبنان لإخراج المقاومة الفلسطينية من جنوبه، فخرجت المقاومة فعلاً، ودخلت إسرائيل في حرب اكثر دموية مع خصم أشد عناداً في الحق هو “حزب الله”، الذي أجبرها على الانسحاب مهزومة، وأذلّها مرة ثانية عندما حاولت تكرار الشيء نفسه في صيف عام 2006.

‘ ‘ ‘

كتائب القسام انتقمت لشهيدها المهندس يحيى عياش بأربع عمليات استشهادية في القدس المحتلة والخضيرة. وتل أبيب، أوقعت مئات القتلى والجرحى، وهزت الدولة الإسرائيلية وأمنها، فقد أقسم قادة الكتائب على تنفيذ أربع عمليات انتقاماً لشهيدهم، وقد أوفوا بالعهد كاملاً بعد أسابيع معدودة من عملية الاغتيال التي وقعت عام 1996، ورسّخوا ثقافة العمليات الاستشهادية على مدى السنوات التي تلت.

من يقدم على عملية اغتيال كهذه، وفي إمارة دبي، لا يريد السلام والاستقرار في المنطقة، وإنما إشعال الحروب، وزعزعة الأمن، ولعل نتنياهو يريد من خلال هذه الجريمة جرّ المنطقة إلى حمامات دموية، وهدم المعبد على رأسه ورؤوس الآخرين، فشخص مثله، وفي مثل عنصريته وأحقاده لن يتورع عن فعل ذلك.

عملية الاغتيال الإجرامية هذه تأتي بمثابة قرع جرس إنذار لايقاظ العرب جميعاً من سباتهم العيق، والعودة إلى ثوابتهم الوطنية والإسلامية، والتراجع عن خيار السلام الذي تبنوه طوال السنوات الثلاثين الماضية ولم يعد عليهم إلا بالذل والهوان والغطرسة الإسرائيلية.

لا حرمة لدولة عربية في المنظور الإسرائيلي، ولا حصانة لترابها وأمنها، فجميع العرب والمسلمين أعداء ألداء، معتدلين كانوا أو متشددين، هذا ما يجب أن يعرفه زعماء العرب، ويتعاطون على أساسه مع هذه الدولة المارقة قبل فوات الأوان.

عبد الباري عطوان

>  www.alquds.co.uk

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>