في ذكرى (فتنة غزة)


كل هذا العداء المنتشر ضد الإسلام وأهله، يعكس حقيقة كون الإسلام يشكل مصدر رعب لغير المسلمين، ومشروعا حضاريا عالميا يمتد في انتشاره في كل اتجاهات الكرة الأرضية زاحفا بنوره الذي يزعج خفافيش الظلام. كما يشكل طريقا تغييريا لأنماط الحياة المادية الحيوانية التي ألفها إنسان الحداثة ومابعد الحداثة، وكما ديمغرافيا يكتسح جغرافية القارات الخمس.

ولذلك يتم التعامل مع هذا الخطر -من لدن الغرب-بكل أشكال التقزيم لحركيته بالإرهاب تارة وبالإغراء تارة أخرى، فهذه حرب وهذه تسوية وهذا حصار وهذا سلام.

وحقيقة الصراع هي بين شمال وجنوب خارجيا، أما داخليا فهي بين قوى تحررية تستمد من الإسلام حقيقة وجودها، وتسعى جاهدة للاستقلال والتخلص من التبعية للمركز الغربي، وقوى تعتقد أن قدر وجودها في التحالف التبعي مع المركز الغربي والولاء لمقولاته. كما هو الشأن في فلسطين بين حماس وفتح.

إن المنطقة العربية يراد لها كما ذكر في الأدبيات الصهيونية والغربية أن تصبح رقعة بلا تاريخ ولاذاكرة ولا هوية ولامصالح مستقلة.

ويجب أن تكرس سياسة الدولة القطرية ذات المصالح الخاصة المعزولة عن عناوين الوحدة العربية والجامعة الإسلامية. وتقسيم المنطقة على أساس الأقليات الإثنية (أمازيغ/ عرب /أكراد /أفارقة). والدينية (سنة/ شيعة/ أقباط/ لادينيون/ سلفية / صوفية/ حركيون). لضمان وجود واقع صراعي متوتر يضعف الوضع العربي ويحدث سوقا للاستهلاك. فيصير الإنسان العربي والمسلم مادة استعمالية نافعة للحضارة الغربية والعولمة الحديثة.

إن” فتنة غزة” هي صورة حقيقية للصراع العالمي الدائر ضد الإسلام

في ذكرى غزة العزيزة -وهي ذكرى الحرب الصهيونية على قطاع غزة التي امتدت في الفترة بين27 دجنبر2008 و18 يناير2009م، وخلفت أكثر من 7000 فلسطيني بين شهيد وجريح-يتوقف المسلم المؤمن أمام مشهد أفواج المؤمنين تتدافع في النيران المضرمة من  أعماق الأخاديد التي أقامها أصحاب الأخدود الذين فتنوا المومنين والمومنات، وهم قعود ينتشون بتعذيب طلائع المؤمنين وهم في أعلى درجات السادية الخبيث: {ومانقموا منهم إلا أن يومنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والارض والله على كل شيء شهيد}. ومن أعظم من الله شهادة، إنها شهادة تطمئن قلوب المؤمنين وتهدد العتاة المتجبرين {إن الذين فتنوا المومنين والمومنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}.

فالقصة لم تنته بعد، وبالنظر في ماحصل في غزة تجد الوحي السماوي منطبقا على المأساة يفسرها تفسيرا يقينيا، إن ما حدث في الأرض ليس خاتمة الحادثة وليس نهاية المطاف فالبقية آتية، إنه القضاء الإلهي الذي سيحاكم الظالمين المستكبرين {لهم نار جهنم لايقضى عليهم فيموتوا ولايخفف عنهم من عذابها}.

مأساة غزة جرح دام في جسد هذه الأمة يندرج في سياق مشكلاتنا الحضارية، التي تنتظر منا الحلول الناجعة {ولينصرن الله من ينصره}.

ومن صور النصر للقضية المقاطعة الاقتصادية:

لقد مرت على الأمة الإسلامية -من قبل- أوضاع من الاحتلال والغزو والاستعمار، جعلت المجتمع الإسلامي يفزع إلى فقهائه ليدلوه على الموقف الشرعي من كثير من النوازل والمصائب.

وقد عبر الفقهاء عن نظر مقاصدي متين في أجوبتهم عن المسائل المعروضة عليهم، حيث وضعوا نصب أعينهم القضايا المصيرية للأمة، ووضعوا الأحكام في سياقها الشرعي الكلي، فنتج عن فقههم حال من الممناعة والمقاومة وإرادة التحرر من المحتل الغازي.

فهذه فتوى للشاطبي وهي كالآتي: “سئل الإمام الشاطبي: هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره لكونهم محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك؟ أم لافرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام؟

فأجاب : الجواب عن الأول-والله الموفق للصواب-:أن هذه الجزيرة جارية مجرى غيرها إذ لم يفرق العلماء في المسألة بين قطر وقطر، ولافرقوا أيضا بين من هادن أو كان حربيا لنا، إلا ماذكره ابن حبيب في الطعام: فإنه أجاز بيعه ممن هادن دون الحربي…”(1). إن جواب الشاطبي عن المسألة، يدل على ما يلي:

> أن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق ببيضة الإسلام وكيانه، تجري عليها أحكام الاقتضاء الأصلي، في كل الأقطار بموجب المناط العام، لارتباطها بالأصول الكلية للأمة، ولا أثر للموقع الجغرافي في تلك الأحكام.

> أن الحاجة إلى الكفار الحربيين في ضروريات معينة، ليست حجة لانتهاك حرمات المسلمين وإدخال الضرر عليهم، إذ الضروريات مراتب، فحفظ الدين مثلا مقدم على حفظ النفس وهكذا دواليك.

> أن مايستعمله الكفار ضد المسلمين لايجوز بيعه لهم.

> وكذلك ماثبت استعمالهم له في شركهم وعبادتهم، لايجوز بيعه لهم.

إن حكم التجارة بالإباحة ليس على إطلاقه، فهو خاص بالكفار الذين بيننا وبينهم عهد وأمان، ثم هو مقيد بما يستعان به أهل الحرب على غلبة المسلمين وقتالهم.

من هنا فإن التصرف المباح إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعا من باب سد الذرائع.وهذا نفسه مدلول القاعدة الفقهية : “كلماسقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة”(2).

ذلك أن المباح يستمد حكمه من مآله الواقعي وهذا ماعبر عنه الشاطبي بقوله:”المباح يطلق بإطلاقين؛ أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك، والآخر من حيث يقال لا حرج فيه وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام أحدها أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل، والثاني أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك، والثالث أن يكون خادما لمخير فيه، والرابع أن لا يكون فيه شىء من ذلك”(3).

وأخيرا فإن سلاح المال والاقتصاد من أشد الأسلحة تأثيرا في الصراع الحضاري بين الأمم، ويكفي أن نذكر ماأحدثه استخدام سلاح النفط في وجه الغرب عام1973م، من آثار وتداعيات وخسائر على الآخر. وإذا منع الفقهاء قديما كالشاطبي إمداد العدو بكل مافيه إعانة له على قتالنا وغلبته علينا، فإن هذا هو مدلول المقاطعة الاقتصادية، وهي مقاطعة تدفع بالعدو للتراجع عن ظلمه أوالتخفيف من طغيانه، وفي ذلك مصلحة للمسلمين، وهو مآل معتبر في معادلة التدافع الحضاري. ووسيلة لتحقيق مقاصد الجهاد، فالمقاطعة الاقتصادية إذن ضرب من ضروب الجهاد.

د. محمد الحفظاوي

——

1- فتاوى الإمام  الشاطبي لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الأندلسي،تحقيق الدكتور محمد أبو الأجفان:192،195.مكتبة العبيكان،الرياض، طبعة رابعة:1421هـ-2001م.

2- الذخيرة:1/153.

3-  الموافقات:1/95،94.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>