في مكتبة عمومية بكولميمة -قبل نيف وثلاثين عاما- كان اللقاء الأول. وفي مسجد (تارماست) غرست شجرة العلم والعمل، وعلى قمة جبل أسدرم، وضفاف وادي (غريس) كان البناء لشباب الدعوة، وفي ثانوية كولميمة أسست مجالس القرآن، وعقدت حِلَق الذكر. وقطفت أولى ثمرات الدعوة، وعلى قمة جبل أسدرم، وضفاف وادي (غريس) كان البناء لأفواج من جيل الصحوة الإسلامة، هنالك توثقت بيننا أواصر الأخوة في الله، وتوطدت وشائج المحبة على الله، وفي ليالي الصحراء الصافية الهادئة، وأيامها المشرقة النيرة، تعاهدنا على السير في طريق المصلحين، والركوب في سفائن الأنبياء والصديقين. لقد كانت آمالنا أكبر من أعمارنا، وطموحاتنا أعظم من إمكاناتنا،.. ودام الحال على ذلك ما شاء الله أن يدوم.. ثم عدت علينا عوادي الزمن، ففرقت شملنا، وبددت جمعنا.. فصرت أنا إلى غرب الغرب، وصار هو إلى غرب الشرق… والتقينا مرة أخرى .. ولكن عبر الكلمات، وكان البدء منه ومنه كان الختام. ووفاء بعهده، وقياما ببعض حقه. أرسم معالم شخصيته من خلال كلماته الوجدانية، ورسائله الإخوانية. فهو -كما عرفته شابا وكهلا، سرا وعلنا، حضرا وسفرا- :
1- الرباني الحكيم : قال -رحمه الله- :” ذلك إن أخوتنا التي أزهرت في ظل الله ، ما كان ينبغي أبدا أن تبلى ولا تتجدد، على الأقل برسائل تعيد لها شبابها، وتذكرها بأيامها الخوالي.
2- الوفي للعهود : قال -رحمه الله- : “وأعود أدراجي لأذكر تلك الانطلاقة المباركة في كولميمة، فقد كانت انطلاقة خير، وما زلت -شهد الله- أقتات من زادها!!! ثم قال: “أما عن شوقك إلى لقائي -كما ذكرت أخي الكريم- فأقول لك -حفظك الله-: شوقك بعض الذي عندي! ومن ذا لا يشتاق إلى شقيق روحه، ومرجع ذكرياته الغالية؟ فإنما شوقي إليك رغبة قوية عساي أشتم في لقائك عهدي بربي، عل روح الجهاد تتوقد نورا وضاء بين جوانحي من جديد! وقـــال -رحمه الله- : “لقد كان لذلك كله أثر طيب في قلبي، فكان الود أكثر إبراقا وإزهارا ، والشوق أكثر اتقادا وتطلعا، عسى تعود أيامنا الخوالي.. فرحم الله زهاد هذه الأمة إذ قالوا فيما قالوا) : (واشوقاه إلى أيام البداية)!
3- الباحث -دوما- عن مجالس الإيمان : قال -رحمه الله- : “أخي محمد، معذرة، فإني لم أنسك أبدا، ولكن الدنيا فتانة!!! فلتكن هذه الرسالة بداية محطة جديدة، تجدد ما جف فينا من منابع الإيمان!”
4- المتشوف للمستقبل. قال -رحمه الله- :” أخي محمد! لا حاجة الآن لتذكر الماضي!.. بل الحاجة إلى التفكير في المستقبل، ما دام الماضي شيئا قابعا في ذواتنا نمتلكه بصفته تجارب وذكريات مفيدة، والغد وحده هو الذي ما زال بعيدا!!! أعني بعد التصور والإدراك، لا بعد الحصول والوقوع!.. ولذلك فهل من فكرة لجعله لصالح الإسلام والمسلمين؟”
5- المهموم بصلاح الأمة -أفرادا وجماعات- قال -رحمه الله- : “بلغ سلامي إلى الأخ محمد بن التقي، والحمد لله الذي جمع بينكما في دار الغربة، ووفقكما إلى ما فيه صلاحكما وصلاح المسلمين. وقال: “أرجو أن تستغل ذلك جيدا في حياتك الدينية والدنيوية. كلاهما سواء. وقال: “ثم هو ضمان إن شاء الله لاستقرارك – مهما طال بك السفر- بهذه البلاد الحزينة التي تحتاج إلى أمثالك، يصلحونها ويحتسبون!”. وقال -رحمه الله :”لقد كان بودي أن أجلس إليك كثيرا، ويطول لقاؤنا لتجديد العهد، وبحث ما جد في حياة الدعوة الإسلامية، وهو كثير!.. كان بودي -وأنا أعرف أن عقلك عقلي وفهمك فهمي وهمك همي- أن نلتقي ونسمر على مائدة العلم والبحث، لبعث العزائم أقوى ما تكون وأمتن ما تكون! وكذا أرشد ما تكون!
والله يحكم لا معقب لحكمه!”.
6- البــار التقي : قــــال -رحمه الله-: “وأنت تعلم حال أبي -إن كنت تذكر، إذا قبضعلي لا يدعني أفلت منه ولو لحظة! ولن يقبل بأي حال أن أغادر في زيارة ما لأحد. ولا أستطيع أن أسترد حريتي إلا بعد فراق والدي إذ يمضي في حاله إلى الراشدية. هكذا ما زلت مع أبي كما كنت. فماذا أفعل؟.”
7- المتواضع الوقور : قال -رحمه الله- :”أما موضوعك عن (المسيحية والنصرانية) فهو موضوع جيد جدا -حقا لا مجاملة- لقد أكبرت فيه هذا المستوى خاصة من الناحية المنهجية، إن هذا ما يسمى (بعلم المصطلح بالفرنسية Terminologie) إنه علم جديد في الدراسات الإنسانية في أوربا، أخيرا تم إدخاله في الدراسات الأدبية في البلاد العربية ويتبجح به كثير من مرتزقة الفكر!
أما ناحية المضمون فأقول لك بحق إنني قد استفدت كثيرا منه فأنا شخصيا لم أكن أفصل أبدا بين المسيحية والنصرانية فكان موضوعك بالنسبة لي علماً جديداً أضفته إلى ذاكرتي فجزاك الله خيرا، وهي نقطة جديدة أضفتها إلى ما سأجعله من تنبيهاتي للطلبة في الكلية إن شاء الله. حبذا لو أجد من يمدني بمثل هذه الدروس القيمة ! أطلب منك طلبا واحدا هو أن تستمر في كتابة مثل هذه المواضيع التي تدرس المصطلحات إنها مهمة جدا جدا جدا!! إن المصطلح يتضمن حضارة الأمة”.
8- الصاحب الصبور : قال :”شهد الله أن من أهم -بل قل أهم- أسباب تأخر هذا الخطاب عنك هو إحساسي بثقل الكتابة إليك، ليس بمعنى القدح، أبدا حاشاك ذاك، ولكن بمعنى أني في كتابة خطاب إلى خليل قلب، أحتاج إلى تفريغ القلب تفريغا !.. تفريغه كلية، حتى تصفو أمامي العلاقة الربانية الرفيعة التي ربطتنا .. فأكتب إليك، بناء عليها .. أرأيت إلى أولئك الصالحين من السلف إذا حضر الطعام أحدهم، استفتى قلبه فإن وجد همة لبناء الأكل على قصد التعبد أكل ، وإلا امتنع حتى يجد (من الوجد) قصد عبادة!؟
كذلك خطاباتك بالنسبة إلي فاعذرني حفظك الله وسددك، هنا وهناك!
من السهل جدا أن أخط إليك أي شيء ،فلا يكون في ذلك الشيء شيئا!
وفتن الدنيا كثيرة .. تملأ الليل والنهار .. وطلبا لمقام التجرد يطول السفار، فإذا أهل إشراقه كانت الكتابة نورا من زيت الفؤاد، يشع من مقام التهذيب والتصفية!”.
9- الناقد البصير : قال -رحمه الله- :”وقد قرأت الورقات: (في الفكر الغربي والحركات الإصلاحية) وبلا مجاملة – لقد فرحت حقا أن سال قلمك بمثل هذا، نعم هي معاني موجودة في كتب كثيرة، لكن المهم عندي هو تركيب هذه المعاني في موضوع وإنشاؤها إنشاء يجعل القراء لها، أكثر ارتباطا بها كلما أوغلوا في قراءتها. إن العالم -أخي الكريم- ليس هو الذي يحفظ القناطير المقنطرة من الفتاوى والقضايا، ولكنه كما يقول المحققون: من يحسن الاستفادة مما يحفظ أو مما يقرأ سواء، وإذا طلب منه شيء أحسن العرض لما عنده، والتنزيل على المناط المحدد بتعبير الأصوليين، ولابن رشد الحفيد في كتابه (بداية المجتهد..) كلام جميل معناه: “وليس الفقيه من يحفظ العدد الكثير من مسائل الفقه-كما هو حال متفقهة زماننا- ولكنه الذي يستطيع إذا عرضت عليه نازلة أن يستنبط لها ما يناسبها”. وقس على ذلك كل علم من علوم الأمة، وكل عالم من علمائها. إن أزمتنا الفكرية الآن، هي أزمة منهج أساسا في فهم ذاتنا وحضارتنا.. وإن مصيبتنا -في ذلك- أن كثيرا من شباب الصحوة الإسلامية -على الأقل في هذا الوطن- ينظر إلى أمور الدين والدنيا من خلال نصوص منثورة هنا وهناك: فهذه آية من هذه السورة أو تلك، لا يدرى لها مساق أصيل ولا تابع، وهذا حديث في هذا الكتاب أو ذاك لا يدرى له سبب ورود، ثم بعد هذا وذاك، لا منهج في ترتيب في درجات الاحتجاج الدلالية، من عبارة نص أو إشارته أو اقتضائه أو مفهومه الموافق أو المخالف… ثم ينظر إلى النص مجزأ هكذا دون ربطه بلواحقه وسوابقه، ثم سبكه في عقده سبك استقراء لشبيهه مما جاء في موضوعه، عسى تكتمل الرؤية وتصح النظرة. تلك -إذن- قضية منهج!”.
وقال -رحمه الله-: “وأعجبني الأخ عبد الوهاب بشري في موضوع (العلم أساس نجاح الحركة) وأنا أقول له: أنا من أنصار فكرتك، وإني أرى أزمة الدعوة عندنا في المغرب (الذي أراه وأحكم عليه دون سواه) (هي أزمة علمية) أساسا! ووددت لو فصل الأخ في موضوعه ليبين ضرورة العلم الشرعي في تقويم واقع الناس وتوجيهه بشكل أعمق.
10- المجاهد الغيور : قال لي -رحمه الله- في رسالة شعرية بعنوان “رسالة إلى مغترب في بلاد الروم” :
فيا خل لا نسيان -ما الدجن عابس-
لعهد على الإدلاج والبرد قارح
فقد شاقني قدح السنابك للــــــــردى
بصبح تجليه الخيول الضوابــح
………………………. …… ……………………………..
عسى يستعيد النخل هيبة طلـــــعه
وينزف عرجون إلى الخلد طامح
فلا عاش من أقعى على الذل باكيا
وطوبى لجلد طوحته الطوائــــــــح
ذ. محمد العمراوي
مدير معهد الامام مالك للتعليم العتيق بسيدي سليمان