معنى الظلم ومفهومه:
الظُّلْم هو : وضْعُ الشيء في غَيْر مَوضِعِه المختصِّ به بنَقْصٍ، أو زيادة، أو عُدُول عن وَقْتِهِ، أو عُدُولٍ عن مَكََانِهِ.
والظلمُ أيضا هُوَ الطُّغْيَانُ ومُجاوزَةُ الحدِّ والتعدِّي على الخَلْقِ، أيْ أن الإنسانَ الطاغي لا يَعْرِفَ قَدْرَ نفسِهٍِ فيُلزِمُهَا حَدَّهَا وحُدُودَها، ولا يَعْرِفُ قَدْرً ربِّهِ فيلتزمُ بطاعتِه وعبوديته، ولا يعْرفُ قَدْْرَ خَلْقِ الله فيُعطي لكل ذي حقٍّ حَقَّهُ، ولكنه يمشي وَفقَ قانونٍ فصَّله لِنَفْسه على قَدْرِ هَواهُ المُتفَلِّت من كُلِّ قُيودِ العقل والشرعِ والعُرْفِ، لأن الإنسانَ الطاغيَ يضعُ لنفسِه الحُدودَ على حَسَب قُوتِهِ، فحدُودُه على حسَب امتداد قوتهِ، سواءٌ كان هذا الانسانُ الطاغي فرداً، أو أُسرة، أو قبيلةً، أو دولةً، أو مجموعَةَ دُول متحالفة.
وسواءٌ كان هذا الانسانُ هَمَجِياًّ سائباً لا يعرفُ إصْغاءً لِلُغةِ العقْل والمنطق، أو كان يَدَّعي أنه متحضِّرٌ حضارةً ماديةً ينطلِقُ منْها لاحتلال بُلْدانٍ واستعمار شُعوب تحت مُسَمَّياتٍ عديدة، وشعاراتٍ برَّاقةٍ زائفةٍ، تُخيِّلُ لَهُ أنها كافيةٌ في الخِداعِ والتَّبرير لانْتهابِ الخيرات والثروات، وانتهاكِ الأعراض والحُرُمات، وسَرقة الكَرامات والهُويَّات، مِثلِ استعمار البلدانِ بدَعْوى تحضيرها، أو دَعْوى مَحْو تخلُّفها، أو دَعْوى إحْلال الأمن فيها، أو دَعْوى القَضَاء على دكتاتوريَّة نظامِهَا، أو دَعْوى إصْلاحِ نُظُم تعليمها واقتصادها، أو دَعْوَى اسْتِئصَالِ جُذُور الإِرْهاب من كِيانها،… إلى غير ذلك من مختلِفِ الادِّعاءاتِ المُغَلِّفةِ للظُّلم والطغيان بترْسَاناتٍ من القوانين والنُّظم الجائرة المُلْزمَة للشعوب الضعيفة بالرُّضُوخِ والخُضُوع.
حَلقَاتُ الظُّـلم الـمـُقَنَّـن والظُّغْيـان الـمُـشْـتَـرع:
حَلقَاتُ الظلم المُطَوِّقِ للمُسْتضعفين عديدةٌ وكثيرة يَصْعُبُ حصْرُها، لأنَّ منها الخَفي، ومنها الظاهر، ومنها البارز الأهداف، ومنها المستتر الأهداف، بَلْ المَخْزُونُ في نفوس الطُّغاةِ الخُبثاء أدْهى وأكْبَرُ مما يُكْتَشَفُ من التَّخْطِيطَاتِ والتَّبْييتَاتِ المُدَبَّرةِ لالْتِهَامِ مُقَدَّراتِ المُسْتَضْعَفين، وصَدَقَ اللَّهُ العظيمُ إذْ يقول : {يَا أَيُّهَا الذِين آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَالُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ماَ عَنِتُّمْ قدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنَ افْواهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}(آل عمران : 118).
وإذا كان الله عز وجل يقول : {أَمْ حَسِبَ الذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ أن لَّنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أضْغانَهُمْ}(محمد : 30).
فقد شاءَ الله عز وجل أن يكشفَ للمسلمين الواعينَ المتبصِّرين عِياناً جميعَ المُصابين بمرض الظلم والطُّغيان سواءٌ بالأصَالة أو التبعيَّة، حتى يأْخُذوُا أهْبَتَهُمْ، ويَسْتَجْمعُوا طاقتَهُمْ، ويبْنُوا ذاتَهُمْ، ويَصْدُقُوا مع ربِّهم ودَعْوتهم ورسالتهم ومنهجهم وحضارتهم، ويَعْزِمُوا العَزْمةَ الكُبْرى لإعْلان المَشْروع التحْريريِّ الشامِل لكل الإنسانية مِنْ كلِّ قُيودِ الظُّلم، وقيودِ الاستِعْبادِ، وقُيودِ الجَهْلِ، وقيُود التبعيَّةِ لشياطين الإفسادِ والتَّفْسيد الذين يَسْتَهدِفُون مَسْخَ فِطْرةِ الإنسان، وتَشْويه مكانته ومَنْزلَتِهِ عند ربِّه الذي شرَّفَهُ بالعَقْل والاسْتِخْلافِ.
أهَـمُّ هـذه الـحـلـقـات :
- حَلْقَة الكِبار المُتواطئين على اسْتِعْبادِ العالم : فهؤلاء لا يعْترفون بقوةٍ فَوْقَهمْ يُمكِنُ أن تَرْدعَهُمْ أو تحاسِبَهُمْ، فهمْ الفراعنةُ المتألِّهُون، والجَبَابرةُ المُسيطرُون، وهم مَعْدِن التحكُّم، ومَنْبَعُ الاعْوِجاج، وأصْلُ الظلمِ المسْتشري كالسرطان في أجسام الضُّعفاءِ.
- حَلقةَ العُمَلاءِ العُمي البُكم الصُّمِّ البُكْم الذين لا يعقلون : فهؤلاء وُكلاءُ الكبار يحكُمون باسْمِهِمْ، ويفكرون بعُقولهم، ويضربون بأيديهم، ويَسْمعُون بآذانهم، فهم عبيد مُسخَّرون لإخضاعِ الشُّعوب لأسيادِهِمْ، وإِخْراسِ كلِّ صَرْخاتِ الأحْرار المتألِّمين من افتراس الكبار ووطْآت الإْذْلالِ.
- حَلْقة الجمعيات والمنَظَّمات المتعددة الأهداف : فهذه عَمَالَةٌ مدنيَّة حضارية تستهْدف الغَزْو من داخل الشعُوب لضَمانِ الاسْتِحْمَار والاسْتِبْغَال.
- حلقة الإعلام المُكثف : الذي يستهْدِفُ تَزْيين بضاعاتِ المشاريع المُستورَدَة عن طريق النُّظم والجمعيات والأحزاب والهيآت حتى يُضْمَنَ دَوَامُ العمَى والبَكم والصَّمَمِ.
- حَلْقَة التَّنْشِئَةِ المُدَجَّنَة : عن طريق التعليم والإعلام والتَّسييس والتجْييش والتأمين والتسْليف والإرْباءِ والإغْراء والتمْييع والتَّفْسيد…
- حَلْقَةُ التَّشْويه والفتك بكلِّ مُعارضة شريفة : سواءٌ عن طريق الإعلام، أو طريق المحاكمة والاعتقال، أو عن طريق التصفية والاغتيال أو عن طريق الحصار والتجويع، فكل ذلك شَرْعٌ معْمُولٌ به في مَذْهَبِ الظلَمَة العُتاة المتستكبرين.
مِيزةُ الظَّلمة ضَيْقُهُمْ بأصواتِ الإصْلاحِ والاستِصْلاح : إنها مِيزةُ الظالمين في كل زمان ومكان :
> فهؤلاء قومُ نوح عليه السلام يقولون له : {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لتكُونَنَّ من المَرْجُومين}(الشعراء).
> وهؤلاء قوم شعيب عليه السلام يقولون له : {لنخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ والذين آمَنُوا مَعَك من قريتنا أو لتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا}(الأعراف : 87).
> وهذا فرعون يقول : {ذَرُوني اقتُلْ مُوسَى}(غافر : 26)، ويقول للسحرة المومنين : {فلاُقَطِّعَنَّ أَيْديَكُمْ وأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ…}(طه : 70).
> أمَّا أبو جَهْل فَاُثِرَ عنه أنَّهُ قال : لَئِنْ وجَدتُّ محمدا يُعَفِّر وَجْهَهُ في التُّراب -يُصَلِّي في المقام- لأرْضَخَنَّ رأسَهُ بحجارة ما أُطيقُ حَمْلها فنزَلَ قول الله تعالى -مندِّداً بِتَهْديدهِ- {أرَايْتَ الذي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى}(العلق : 10) ونزل قول الله تعالى -حامياً عَبْدَهُ وحافظا- {كَلاَّ لاَتُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَربْ}(العلق :20).
> وأبو لهب -عَمُّ الرسول – : ومع ذلك لم يطِقْ دَعْوَة محمد الناسَ لعبادة الله والتحرُّر من عبودية البَشر لِلْبشر، فقال له : “تباً لك، ألِهَذا جَمَعْتَناَ؟!” فقال له الله تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(المسد :1). أما سَبَبُ ضَيْق المُستكبرين الظالمين بِدَعوات الإصلاحيِّين، وتبرُّمات الأحْرار المُتألِّمين فتتلخَّصُ فيما يلي :
أولا : أنهم لا يَعْـتَرفونَ بقوة الله القاهر فوق عباده.
ثانيا : لا يَعْرفون قَدْر الله عز وجل يوم يرجعُون إليه ويُصبحُون في قَبْضتِهِ.
ثالثا : لا يَعْرفُون حَجْم العقاب المُترتِّب على الجرائم التي يقترفونها في حق الأفراد والشعوب، وحق الصَّدِّ عن دعوة الله، وحَقِّ الإفساد للأفراد والأمم والشعوب !!!
فإذا كان الرسول قال : مَنْ ظُلِمَ قِيدَ شِبْرٍ منَ الأرْضِ طُوِّقَ مِنْ سبْعِ أَرَضينَ (متفق عليه).
فكيف بِمَنْ احْتَلَّ شعْباً بغير حق؟! وكيف بمن احتل شعوبا بغير حق؟! وكيف بمَنْ شرَّدَ شعوبا؟! ويتَّمَ ملايين الأطفال؟! ورمَّلَ ملايين النساء؟! وقتل ملايين النفوس؟! واغْتال آلاف العلماء؟! وكيف بمَنْ ضَلَّلَ أمماً وأفْسَد ذِمَماً؟!
إنهم لا يَعْرفُون السَّرابيلَ من القَطِران؟! ولا يعرفون تفصيل الثيابِ من النيران على قدر جرائمهم؟! ولا يعرفون الطعام من شجَرَةِ الزّقوم؟! ولا الشراب من الغِسلينِ والحَميم؟! ولا يَعْرفُون أنَّ ألسنَتَهُمْ الطويلَةَ في الفضائيات وعلى الشاشات الإعلامية سَتُخْرَصُ، وتتكَلَّمُ الجَوَارح والأعْيُنُ والادْمغَةُ والأيْدي والأرجُلُ بكل ما اقترفَتْهُ من الآثام؟! لو عَرًَفوا لهَابُوا وارتدَعُوا، ولكنهم جَهِلُوا فَدَلَعُوا؟!!
رابعا : لا يعرفُون مَنْزِلَة المظْلُوم في ميزان الله العَادِلِ، الذي يقول لكل مظْلُومٍ {لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ}.
فضيقُ المُستكبرين ناشئٌ عن ظُلْمَةِ القَلْبِ المحجُوب عن الله تعالى، أما المظلومون فيُــرْزَقُون طُول النَّفَسِ، وطُول الصَّبْر على الظلم بجميع أنواعه، لأنهم :
أولا : يعْرفُون أنهم في عَيْن الله عز وجل العادِلِ، والناصر للمظلوم.
ثانيا : يثِقون بالله عز وجل ثقة ً مطلقة فهو ملاذُهم، ومَلْجأُهُمْ، وزادُهُمْ، وعُدَّتُهم.
ثالثا : يعرفون أن صَبْرهم يرفع دَرَجَاتِهم دنيا وأخرى {إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابروُنَ أَجْرَهُمْ بغَيْر حِسَابٍ}(الزمر : 11)
رابعا : يعرفون أن النصر مع الصَّبر، ألم يقل : “واعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْر”.
خامسا : أن الصَّبْرَ طريقُ الإمامة في الهُدَى والدعوة {وَجَعْلْنا منهم أئِمَّةًَ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا بآياَتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة : 24).
سادسا : أن الله عز وجل يَسْمعُ دُعَاء المظلوم ويفتَحُ أمامَهُ أبوابَ السماوات لرَفْعِهِ وقَبُوله.
سابعا : أن الله عز وجل يسْتَوْفِيهِ حقوقَهُ كاملةً يوم القِصَاص العَدْلِ.
ثامنا : أن الله عز وجل يغْرِسُ في قلوب عبادِهِ حُبَّ المظلومينَ وكُرْه الظالمينَ.
فكيف لا يصْبِرُ المظلومُون وجُوعُهم لله، وحصارهم مدَّخَرٌ عند الله، وقَتْلُهم شهادةٌ في سبيل الله؟!
مَصيرُ الظَّلَمةِ المجرمين:
إن المَظْلُومين يصبرون بِلَذَّة واطْمئْنان نَفْس، وانْشِرَاح صَدْرٍ لأنهُمْ يعرفون:
أولا : أن عاقبةَ الظالمينَ خَرَابُ الديار في الدُّنْيا، وخِزْيٌ في الآخرة {وكَمْ قَصَمْنَا من قرية كانَتْ ظَالِمَةًْ}(الأنبياء : 11) {ولاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون إِنَّمَا يُوَخِّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصَارُ}(إبراهيم : 42).
ثانيا: يعرفون يقيناً أن بِمِقْدار الْتِذاذِ المُجرم بإنْزال الأذى بالمظلوم في الدُّنيا تَكونُ حَسْرَتُهُ يوْم القصاص أضعافاً مضاعفةً {ويَوْم يَعَضُّ الظَّالمُِ على يَدَيْه يقولُ : ياَ لَيْتَنِي اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُول سَبيلاً ياوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أتخذْ فُلاَناً خَليلاً لَقَدْ أضَلَّني عنِ الذكر بعد إذْ جَاءَنيِ وكان الشَّيْطانُ للانْسَانِ خذُولا}(الفرقان : 27-29).
أما الظلمة بالتَّبَعيَّة فمصيرُهم {يَوْمَ تُقَلَّبُ وجُوهُهم في النار يقولُونَ : ياَلَيْتَنَا أطَعْنَا اللَّه وأطَعْنَا الرَّسُولا. وقالوا : ربنا إِنّنَا أَطَعْنَا سَادَتَناَ وكُبراءَناَ فأضَلُّوناَ السَّبيلاَ}(الأحزاب : 67).
فبُشْرَاكُمْ أيُّهَا المظلومون المجوَّعُون والمحاصَرُون في ذاتِ الله تعالى!!! وياَوَيْلَكم أيُّها الظالمون المُتَغَطْرسون!!!