تـعـقـيـبـات
1) القرآن يُهيِّئُ النفوسً للهجرة :
> قال تعالى في سورة الزّمر : {قُلْ يا عِبادِ الذِين آمَنُوا اتّقُوا ربَّكُمْ للذِينَ أحْسَنُوا في هَذِه الدُّنْىا حسنةٌ وأرْضُ الله واسِعَةٌ إنّما يوَفَّى الصّابرون أجْرهُم بغَيْر حِساب}(10).
إنها آية تقول للمؤمنين بصراحةٍ : إن مكة لم تعُدْ تصلُح للعَيْش الكريم المضمون الحرِّيّة والكرامة، وأن الخروج من مكة ليسَ موْتاً أو ذُلاًّ، ولكن الخروج فيه عزٌّ وبناءٌ لمستقبل الإسلام. والصّبْر على الغُربة عِوضُه الأجْر بدون عدٍّ ولا حساب.
> وقال تعالى أيضا : {والذِين هاجَرُوا فى اللّه مِن بعْد ما ظُلِمُوا لنُبَوِّئنَّهُم في الدُّنيا حسنةً ولأجْرُ الآخِرةِ أكْبَرُ لوْ كَانُوا يعْلَمُون الذِين صَبَرُوا وعلى ربِّهم يتوكَّلُون}(النحل : 41- 42) فالآيات صريحةٌ في الوعْد بالمنزلة الرّفيعة في الدّنيا والفوْز بالآخرة.
> وقال تعالى في سورة النحل أيضا : {ثمَّ إنّ ربّك للذِين هَاجَرُوا مِن بعْد ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إنّ ربَّك من بعْدِها لغَفُورٌ رحِيم}(110)، فالآية صريحة في أن الهجرة ليست للاسترخاءِ والاسْتِرْواح، ولكنها للجهاد الشّاقِّ الذي يتطلبُه بناء الدّولة الجديدة في التاريخ، فالهجرة انتقال من الصّبْر على الافْتِتَان إلى مُواجَهة الافتتان بالدّفاع عن النفس بالسِّلاح الذي يفهَمُه ويرْدَعه.
> وقال في سورة العنكبوت المكية أيضا : {يا عِباديَ الذِين آمَنُوا إنّ أرْضِي واسِعَةٌ فإيّايَ فاعْبُدُون}(56) {وكأيِّنْ من دابّةٍ لاَ تَحمِلُ رِزْقَها اللّه يرزُقُها وإيّاكُم وهو السّمِيع العليم}(60).
إن الهجرة لم تكن فلتَة من القَدَر، ولا هُروباً من اضطهادٍ، ولكنها كانت نقْلَةً من مرحلة إلى مرحلة، من مر حلة التربية والإعداد إلى مرْحلة إقامة الدولة الإسلامية على عيْن الله تعالى ورعايته، ولذلك اقتضَتْ الكثيرَ من توضيح أهْدافِ هذه الهجرة في العديد من السُّوَر المكية، ليكون المسلمون المهاجرون والمستقبلون للمهاجرين على بيّنة من أمرهم في كل خطوة يخطونها.
2) الرسول يُرى دَارَ الهِجْرة :
شكا المسلمون إلى رسول الله ما يلاقونه من الأذى، واستأْذَنُوه في الهجرة، فقال : >قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لا بّتَيْن، وهما الحرتان، ولو كا نت السّرَاُة أرض نخل وسِياخٍ لقُلْت هي هي< ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً، فقال >قدْ أُخْبِرت بدارِ هِجْرتِكُم، وهي يثْرِب، فمن أرادَ الخرُوج فلْيَخْرُج إليها<(1).
3) ثواب الجهاد الذي يتهيأ له هؤلاء المهاجرون :
في ليلة الإسراء والمعراج مرّ رسول الله على قوْم يزْرَعُون في يوْم ويحصدون في يوم، كلما حصَدُوا عاد كما كان، فسأل جبريل \ فأخبره >هؤُلاءِ المُجاهدُون في سبِيل الله تضَاعَفُ لهُم الحسناتِ بسَبْعِ مائة ضعْف وما أنفقُوا من شيْء فهو يُخْلِفُه<(2).
مـسـتـفــادات
1) الغمُوضُ في التّخْطيط البشريّ دليلُ العَجْز والتّناور :
إن الله تعالى قبل أن يأذن للمؤمنين بالهجرة، بيّن لهم الغاياتِ الكبيرة من الهجرة، والمستقبل الدنيوي و الأخروي من تنفيذ الهجرة، ليكونوا على بيّنة من أمْر الله تعالى، وبيّنَةٍ من مصيرهم، وماذا يريد الله عز وجل أن يصْنع بهم، فيقبلوا على الهجرة بكل حماس وشوق وتلقائية. فلماذا لا نجد دُولنا تخطِّطُ بوضوحٍ كذلك لمراحِل التنمية البشرية تعليماً، وسياسةً، واقتصاداً، وعلماً، وثقافةً، وإعلاماً، وتجنّداً. في ضوْء التعبئة الروحية المستمدّة من مُرادِ الله تعالى وسُنَنِه وما ارتضاه لنا من نعمة الإسلام، لتكون الشعوب متحمسة في كل مجال وكل نشاط، فعدم التخطيط من منطلق التعبئة الروحية أكبر دليل على العجْز عن مواجهة التحديات، ومُداراة تلك التحديات بالخداع والتناوُر.
2) الجهاد يأتي أُكْلَهُ سريعا :
إذا كان الرسول رأى المجاهدين يزرعون ثم يحصدون، سريعا، ثم يرجع الزرع كما كان ليُحصد من جديد، فهذا أكبر دليل على أن الجهاد النفسي والمالي والتعليمي والسياسي والثقافي والاجتماعي يثمِر سريعا، فلو عبَّأنا الأمة والشعوب لإعلان الجهاد على الأمية الدينية، وعلى التخلف الفكري، وعلى الغزو الثقافي والتعليمي… لرأينا ثمار ذلك مضاعفة في أوقاتٍ قياسيّة لا تخطر على بال المتربصين، ولكن من يُفْسِحُ المجال لإعلان الجهاد المدَني الذي لا يحتاج إلاّ إلى سلاح العزيمة، وسلاح الإيمان، وسلاح التقوى، وسلاح الصّبر والإخلاص. إنه الجهاد الذي يُزري بالجهاد العسكري في زمن الإعلام والمعلوميات، وزمن التكنولوجيات والشّبكيّات، لو فقهنا ذلك.
3) الإذْنُ بالقتال يدُلُّ على التّرْبية المضْبُوطَة :
فكلمة >أُذِن< التي نزلتْ مبنيّة للمجْهول تدُلّ على أنّ الفاعِل الذي أعْطى الإذن بالقِتال هو الله تعالى، وإذا كان الله تعالى أعطى للمسلمين حقّ القتال دفاعاً عن دِينهم وحرّيّة تديُّنيهم فمعْنى هذا أنهُم قبْل أن ينْزل لهم الإذن بالقتالِ كانوا ممْنُوعين من ممارسة حقِّ الدفاع عن النفس، وحقِّ الدّفاع عن الدين، وحق الدّفاع عن حرِّيّة التديّن.. بنصِّ قرآنيٍّ تشريعيٍّ لا يسَعُ المسلمين إلا الانْضِبَاطُ له مهْما كانَتْ قداحةُ المغَارِم وعظَمَةُ المصائِب لحِكَمٍ عالية تقْتَضِيها سُنَّةُ اللّه الأزَلية في تربيَة النفوسِ المُؤمنة على دَفْعِ الأثمان الباهِظَة في سبيل ترسيخِ مبادِئ الدّين، وإعْطاءِ القُدْوة للكافرين والمعاندين، والأجيال المؤمنة من بعْدُ : أن هذا الدِّين فوق النفس، وفوق المال، وفوق الحياة، وفوق الدّنيا كلها، لأن هذا الدين -ببساطة- هو الحياة، هو الخلودُ، هو النّعمة الكبرى، هو السعادة التي لا سعادة فوقها، وفعلاً كان الانضِباطُ التربويُّ محكوماً بنصٍّ قرآنيّ صريح، هو قول الله تعالى : {كُفُّوا أيْدِيكُم} للإشْعار بأن الذي أنزل هذا الدّين هو الذي يُنْزل التوجيه المناسِب لكُلِّ مرحَلَةٍ من مراحِل الدّعوة، وهو الذي يبعَث الرسول المُشْرفَ على ترْبية النفوسِ وحراستها من الزَّيْغ والتفلُّت، لأنّه هو الأعْلَمُ بما يصْلُح لكل مرحلة، وما يؤثِّرُ في النفوس المؤمنة والجاهلة.. ولذلك كانت المرحلة المكيُّة مرحلة كفّ الأيْدي، والعُكوف على تزْكية النفوسِ بالصلاة، وقراءة القرآن، والتهجُّد، وتملِّي حياة الآخرة وما أعدّ الله فيها للأبرار من الفوز العظيم، وتمَلِّي تفاهَة الدنيا، وتفاهة أهْلِها، وسفَاهة عبدتِها، ليتبيّن للناس بالمحْسُوسِ الفرْقُ بيْن المؤمنين الذين يحْمِلُون قَضِيةَ رِسالة >لا إلَهَ إلا اللّه< وبين الكافرين الذين يحْمِلون رسالةً العبَثِ والطّغْيان والفَسَاد والإفساد بدون سَنَدٍ ولا قانُون ولا غَايةٍ إنسانيّة شريفةٍ.
ولهذا عندما نزَل الإذْن نَزل وهو يحمل في طيّاته مبرّرات الإذن بالقتال، التي تتلخّص فيما يلي :
> أن المؤذَنَ لهُم ظُلموا ظلما فادِحاً يسْتوجِبُ ردْع هذا الظلم، خصوصاً وأن رسالة الإسْلام هي رسالةُ العدْل والحق.
> وأن المؤذَن لهُم يستحقُّون النّصْر من عند الله بعد أن تخلّى عنهم البشر الظالم، لأن الظلم لا يرضاه الله تعالى العادل.
> وأن الظلم بلَغَ الغايةَ حينما عُذِّب المظلومُون، وجُوِّعُوا وحوصِرُوا، وقُتلوا، وأخيراً طُرِدُوا من ديارهم بغير جُرْم اقترفوه.
> وأن الظلم وقع لأن المظلومين قالوا >ربُّنا اللّه< وفارقوا على ذلك قومهُم بدون أن يكرهُوهُم على دينهم، وبدون أن يمسُّوهم بأيّ أذَى.
> ثم إن هؤلاء المظلومين الذين يقولون >ربُّنا الله< هُمْ الذين يحملون الرسالة الحضارية للإنسانية جمعاء، فهم الذين يملكون مشْروع الإصلاح، المسطّر في : إقامة الصلاة لتزكية النفوس، وإيتاء الزكاة لتطهير النفوس من الشح والبخل، والأمْر بالمعْروف لجعْل المجتمع صالحا، وتطهير المجتمع من كل مُنْكر عقدي، أو فكري، أو سلوكي، أو اقتصادي… وتلك هي الحضارة الصالحة للإنسان سواء كانت فرداً أو جماعة.
إنها المرحلة المكية التي لا يمكِنُ القَفْزُ عنها في أية مرحلة من مراحل إعادة البناء للأمة الإسلامية لتكون -كما كانت- خير أمة أخْرجت للناس، ولأن النصر لا يُمْكن أن يتحقق ويتنزّل أبداً بدون وجود جماعة مؤمنة تستحق أن يتنزّل عليها النصر الذي نزل على المؤمنين المؤْذَن لهم في القتال والدفاع والانتصار.
ولهذا لا نتعجّب إذا رأينا النّصْر -وإن كان آتياً لا محالة بإذن الله- يتخلَّفُ ويبطئُ في واقعنا المعيش لحكمةٍ أو لحِكم عديدة يريدها الله تعالى كما يقول السيد قطب رحمه الله تعالى. فقد قال :
>< قد يُبْطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لمْ تنضجْ بعد نُضْجها، ولم يتمّ تمامُها، فلوْ نالت النّصر لفقدته سريعاً لعدم قُدرتِها على حمايته.
< وقد يبطئ النصر حتى تبذُل الأمة آخر ما تملكُه من رصيد، فلا تسْتبقي عزيزاً ولا غاليا لا يُبذل.
< وقد يبطئ النصرُ حتى تُجرّب الأمة آخِر قواها، فتُدْرك أن هذه القوّة بدون اعتماد على الله لا تكْفُل النصر.
< وقد يُبطئ النصر لتزيد الأمة صلتَها بالله أكْثر فأكْثر حتى لا تحيد إذا انتصرت.
< وقد يبطئ النصر لأن الأمة مازالت لم تتجرد لله كُلّ التجرد في الكفاح والبذل والعطاء.
< وقد يبْطئ النصر لأن الشر الذي تكافحُه الأمة فيه بقيةٌ من خيْر، والله عز وجل لا ينصر الأمة إلا إذا بقي الشرُّ وحْدَه متمحضا، فيهلِكُه الله.
وكذلك يبطئ النصر إذا كان الباطلُ مازال متلبساً بالحق، لمْ ينكشف زيْفُه وفسادُه، وكذلك إذا كانت البيئةُ مازالتْ لم تتهيّأ لاستقبال النصر، واستقبال الحق والعَدْل، أو كانت لا تملك القُدْرة على تجْسِيم الحق وتمثيله في الحياة عِيانا بياناً<. انتهى بتصرُّف واختصار من الظلال 2426/4 وما بعدها.
أ. المفضل الفلواتي
———
1- طبقات ابن سعد 325/1 نقلا عن السيرة النبوية للصلابي ج 418/1.
2- السيرة لابن فراس 210.