بَـابُ اللَّـهِ وبَـابُ الْـبَـشَــر
البشَرُ المعتبَرُ -دنيويا- من نوْع الرئيس، والوزير، والوالي، والعُمدة، والقائد، أبْوابُه دائماً مُغَلَّقَةٌ ومَحْرُوسة، ومُحاطة بالكثير من الحُجَّاب والوسطاءِ المُتاجرين في هُموم الناسِ، والمُثْرين على حِسَاب حاجات الناس وأغراضهم.
وأخْذُ حاجاتك مِنْ أنواع هذا البشر المُعْتَبر -في ميزان الدُّنيا والدُّنيويين- يحتاجُ إلى تدخُّلات ووسائط ورَشاوى، كما يحتاجُ أحيانا إلى مُظاهرات واحْتجَاجَاتٍ واعْتِصامات، بَلْ ويُمْكن أحياناً أن يحتاجَ إلى مُصَادَماَتٍ وإرَاقة دماءٍ وفتح زَنازِن ومُعْتَقَلاتٍ…
ومع هذا الجهد الكبير، والعِرَاك المُحتَدِم يُمكن أنْ يَحْصُلَ الإنسانُ المحتاجُ، والمهْمُوم، والمكْلوم، على فُتَاتِ موائد الكبار التي لاتُسْمِنُ ولا تغني من جُوع، بَلْ ويمكنُ أن يحصُلَ على وعْدٍ -فقط- بإجراء الحوار حَوْل المسألة الفلانيَّة، والمسألة الفلانيَّة… قصد إيجاد الحُلول للمشاكِلِ المُزْمِنَة، من فئة توظيف المُدكْترين، وتَشْغيل المُعَطَّلين، ونزاهة الانتخاباتِ الجماعيَّة، والنيابيَّة، والرئاسيَّة، وإطلاقِ حريَّة التَّعْبير من قَماقِمِ الهَيْمَنَة الاستكباريَّة والاحتكاريَّة والاستبدادية…
أمَّا نَيْلُ الحقوق من المسْتكبرين العالميِّين، من نوع إزاحة المُحْتل الأجْنبي عما احتله بغير حق ولا سند شرعي من قانون سماويٍّ أو عُرْفِيٍّ، أو عَقْلِيٍّ، أو َمنْطِقِيٍّ.. أو مِن نوْع تحرير الاقتصاد، أو التعليم، أو السياسة من الهيمنة الأجنبيَّة… فهذا يحتاج إلى عقودٍ وقرون مِنَ النِّضال الدَّامي، والصِّراع المرير للظَّفَر ببعْض الحُقُوق الملغومة بالمتفجِّرات ذاتِ الحَرائِقِ المُعَطِّلة للسَّيْرالرشيد.
قَارِنْ بَيْنَ بَابِ البشر العاجز الضعيف وبين باب اللَّه الكريم تجد الفرقَ واضحاً :
فبابُ الله مفتوحة على الدَّوَامِ في وجْه حاجات خَلْقِهِ، ماديَّةً كانتْ أم مَعْنويَّة، مُعَجَّلةً كانت أم مُؤَجَّلةً، صغيرةً كانتْ أم كبيرةً، لأن الله عز وجل هو الكبيرُ المتعالِ، وهو الواسِعُ الرحْمةِ والفضْل، وهو الغنيَّ الحميد، لا يُعجِزُه شيءٌ، ولا تَنْفَدُ خزائنُه، ولا يَعْيَى برغبات خَلْقِهِ وطلباتهم وحَاجاَتِهِمْ!!!
ألا تَراَهُ سبحانه وتعالى يُرَغِّبُ عبادَهُ في الإِكْثارِ من دَعْوتِهِ؟! ويَحُثُّهم على الإقْبال عَلَيْه، وبسط كلّ حاجاتِهِمْ لَدَيْه، فيقول لهم : {أُدْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60 ) بَلْ ويُوصي رسولَه محمدا عليه السلام أن يُخْبِرَ عباَدَه بأن ربَّهُم قريبٌ منْهُمْ لا يحتاج طلبُ حاجةٍ منه إلى وسيط أو شفيعٍ، فيقول سبحانه وتعالى : {وإذا سألَكَ عبادي عَنِّي فإني قَرِيبٌ أُجيبُ دَعْوة الدَّاعي إذا دَعاَنِ فَلْيَسْتَجِيبوُا لِي ولْيُومِنُوا بِيَ لَعَلَّهُم يَرْشُدونَ}(البقرة : 185) شرطٌ واحِدٌ يجبُ توفيرُهُ أمام الطَّلَبَات هو الإخلاصُ والاستجابةُ والإيمانُ به أنه وحْدَهُ سُبْحانَه الكافي عبادَهُ كُلَّ شيء، فلا يَحْتَاجُون مَعَهُ أو بَعْدَهُ إلى أيِّ شيء سواه!!!
بل إنّ الله عز وجل قال في الحديث القدسي : >ينْزِلُ اللّه إلى السّماء الدّنيا كُلّ ليْلة حين يمْضِي ثُلُث اللّيل الأوّل، فيقول : أنا المَلِكُ، أنا المَلِكُ، من ذَا الذي يدْعُونِي فأسْتَجِيبَ لَهُ؟! مَنْ ذَا الذي يسْألُنِي فأُعْطِيَهُ؟! منْ ذا الذِي يسْتَغْفِرُني فأغْفِرَ لَه؟! فلاَ يَزَالُ كَذَلِك، حتّى يُضِيءَ الفَجْرُ<(متفق عليه)، ويقول : >إنّ اللّه عز وجلّ يبْسُط يَدَهُ باللّيل ليتُوبَ مُسِيءُ النّهارِ، ويبْسُطُ يدَهُ بالنّهارِ ليتُوبَ مُسِيءُ اللّيل<(مسلم).
عـطـــاءُ اللّــه الــواسِــع الـكــرَم وعـطــاءُ الـبـشــرِ الضّــعـيـف
تأمَّلْ هذه القصة وافْهَمْ :
شعرَ معنُ بنُ زائدة بغضَب هارونَ الرشيد عليه، فجاء إليه، وعندما دخَلَ عليه صار يمْشِي بخطْوٍ مُتَثَاقِلٍ -تأدُّبا، وتضرُّعاً، وتملقا- فقال له هارون :
كَبِرْتَ واللّه يا معْنُ.
فقال معْن : في طاعتك يا أمِيرَ المومنين.
فقال هارون : وإنّ فيك على ذلك لبَقِيّةً
قال معن : هي لك يا أميرَ المومنين.
قال هارون : وإنَّكَ لجَلْدٌ، أي قويٌّ
فقال معن : على أعْدائكَ يا أميرَ المومنين.
فرضي هارونُ عنه ووَلاَّه (الإسلام والاستبداد السياسي) للغزالي ص 185.
قصةٌ طريفةٌ تُبيِّن أن معْناً كبِرَ في طاعة هارون، وما بقي من صحَّته وعُمُره فهو لهارون، وأمّا ما فيه من قُوّةٍ فهي مسخَّرَة للدفاع عن هارون.
وصَدَق الزاهدُ عبد الرحمان بن زيد، عندما قال -بعد ما بلغته القصة- : >هذَا ما ترَكَ لرَبِّه شَيْئاً<.
فماذا كانتْ ثمرَةُ هذا التملُّق المُذِل؟! كانت ثمَرتُه ولايَةً، أي حَفْنةً من سُلطة، على حفْنةٍ من تُرابٍ رخيص، وقد تكون الثمرة عُمْدة مدينة، أو وزارة، أو رضًى عن انتخابات مزورة، أو رِضًى عن صفقة خاسرة، أو رشوة غليظة لقاءَ منْصِبٍ يُدِرّ الملايينَ… إلى غير ذلك من الثمرات الترابية.
هذا وأقلّ من هذا هو ما يسْتطيع البشر الضعيفُ أن يمْنحَهُ -بعد إراقةِ ماءِ الوجْه، وماء العزة والكرامة-!! ولنْ يستطيعَ أبداً : منح صحّةٍ، أو مَنْحَ هداية، أو منْحَ ولَدٍ، أو منْحَ مطَر، أو منْح وقايةٍ من عذاب، أو منْح نصْرٍ على الأعداء، أو منْح سكينةٍ أو اطمئنانٍ، أو منح جنّةٍ عرْضُها السماوات والأرض…
هذا عطاءُ البشر الضعيف فلْنتصفّحْ بعض عطايا الوهاب :
> قال نوح \ دَالاًّ قومَهُ بصدْقٍ على جهةِ القوة الحقيقية التي تسْتطيع أن تمنحهم خير الدنيا والآخرة {فقُلْت اسْتَغْفِرُوا ربَّكُم إنّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِل السّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويُمْدِدْكُم بأمْوالٍ وبَنِينَ ويجْعَل لّكُم جَنّاتٍ ويجْعل لّكُمْ أنْهاراً}(نوح : 12) وهل هناك أفضلُ من مَغْفرة الذنوب في الآخرة وإعطاءِ ما يتمنّاهُ الإنسان من الماء والجنان والأموال والبنين في الدّنيا؟! هل يستطيع البشر المؤلّهُ أن يعطي شيئاً من ذلك؟!
> ونفس التوجيه قالهُ سيدنا هود \ لقومه ليَحْصُلُوا على القوة الاقتصاديّة والقوة الصّحّيّة والذاتيّة والاجتماعية {ويا قوْمِ اسْتَغْفِرُوا ربّكُم ثُمّ تُوبُوا إِلَيْه يُرْسِل السّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويزِدْكُم قُوّةً إلى قوّتِكُم ولا تتَوَلَّوْا مُجْرِمِين}(هود : 52).
> وذُو النّون \ المقبُورُ في بطْن الحوت نادى في الظلمات {أن لاّ إِلَه إلاّ أنْتَ سُبْحانَك إنِي كُنْتُ مِن الظّالِمين} فكانت نتيجة هذا الدّعاء : {فاسْتَجبْنا لَهُ ونجّيْناهُ مِن الغَمِّ وكَذَلِك نُنْجِي المُومِنِين}(الأنبياء : 87).
> وفتية أصْحاب الكهف عندما أُخْرجوا مطْرُودين مقهورين فالْتجأوا إلى اللّه مُضْطرِّين مُنيبين قائلين : {ربّنَا آتِنا من لدُنْك رحْمةً وهيِّئ لنا مِنْ أمْرِنَا رشَداً} كانتْ ثمرةُ هذا التوجُّهِ لربِّ العِزَّةِ أن هيَّأ لهم أمْرَهم كُلَّه تهْيِيئاً لا يقْدِرُ علَيْه بشر متألِّهٌ {فَضَرَبْنا علَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سنِينَ عَدَداً}(الكهف : 11).
لاَءاتُ الـمُتَكَبِّرِينَ وفُـتُـوحاتُ الـمُتَضَرِّعِينَ
إن سُنَّة اللّه الأزلية الماضيةَ في الكُفَّار المُتَكبِّرين الذين يصِلُون في عتوِّهم واستكْبارهِمْ إلى دَرَجة الإقدام على إخْراج المستضعفين من دُورهم ومنازلهم وأمْوالهم ظلماً وعُدْواناً هِيَ ما قرّره الله تعالى في هاتين الآيَتَيْن الخالدتين {وقَالَ الذِين كَفَرُوا لرُسُلِهِمْ لنُخْرِجَنَّكُم مّنْ أرْضِناَ أوْ لَتَعُودُنّ فِي ملَّتِنَا فأوْحَى إليْهِمْ رَبُّهُمْ لنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ ولنُسْكِنَنَّكُمْ الأرْض مِن بعْدِهم ذَلِك لِمَنْ خاف مقَامِي وخافَ وعِيد}(ابراهيم : 16- 17).
فكلُّ من توَقّحَ واعتبر الأرض أرضَهُ وليسَتْ أرض اللّه ليسكُنَهَا عبادُ الله، كلُّ من توقَّح إلى هذه الدرجة وعَزَم على إخراج عباد الله من أرض اللّه فإن الله عز وجل يطردُه من مُلْكِه ويُخْرجُه من الدنيا كُلِّها إلى أرض الجَحيم في الآخرة ليُسْكن عبادَهُ الصالحين في أرض الدُّنيا معزَّزين منصورين، ثم يكتبُ لهم الفوز بأرض الآخرة منعمين مُكْرَمِين.
> فهذا فرعَوْنُ المتألِّهُ المُسْتكْبِرُ أرادَ أن يُخْرج عبادَ اللّه من أرْض الله، فأخْرجه الله عز وجل من الدنيا كلها {فأرَادَ أن يَسْتَفِزَّهُم مِن الاَرْضِ فأغْرَقْناهُ ومَن مَّعَهُ جمِيعاً}(الإسراء : 103).
> وهذا جالوتُ سلَّط الله عليه داود \ فأخرجَهُ من الدّنْيا ومَلَّكَه مُلْكَهُ {فَهَزَمُوهُم بإذْنِ اللّه وقتَلَ داَوُودُ جالُوت وآتَاهُ اللّه المُلْك والحُكْم وعَلَّمَه مِمَّا يَشَاء}(البقرة : 249).
ونفْسُ الشيء وقع بالنسبة للطّغاة من قوْم نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام، فكلُّهم أخْرجهم الله عز وجل من أرضه الدنيوّية إلى أرض الجحيم الأخرويّة، فهَلْ طغاةُ اليوم آمِنُون في أرْض المسلمين من أفغانستان، والفليبين، وزَنْجبار، والشيشان، والعراق، والصومال، إلى أرْض فلسطين؟!!!
هؤلاء الطغاة العصريُّون ليسوا مُحَصَّنِين :
< بمجْلس الأمن الذي لا يعرف إلهاً معبوداً فوقِه.
< ولا محصَّنين بما يملكون من القوة التدميرية المُحتكَرة لَدَيْهم.
ولكنهم مُحَصّنون من بأْس الله إلى حين :
> بالقُوّة الدِّيمقراطية، والقوة الإداريّة، والقوة التنظيميّة، والقوة السياسية… التي ليس منها شيء عند المسلمين، المنتمين شكلاً للإسلام، وجوْهراً للهَوَى والفوضى والمصلحة الخاصة.
> ومحصَّنُون أيضا بالعُملاء الذين هم ذراعُ الغزو الاستعماري، والغزو الثقافي، والغزو الإعلامي، والغزو العلمي…
> ومحصَّنون أيضا بالقابلية للاستعمار التي غزَت الأسَر والبيوت والمجتمعات والمعاهد والجامعات والشوارع والشواطئ والعقول والأفكار.
> ومحصَّنون أيضا بالجَهْل الغليظ بالإسلام ورحماته، ومراميه ومقاصده، فالذين يدّعون العَمل للإسلام كثير منهم شديدو الرحمة بالكفار شديدو العداوة للمسلمين، والكثير منهم يتقاتلون على الدنيا تحت شعار الجهاد، والكثير منهم يسمي نفسه مصلحا وهو من أكبر المفسدين… فهؤلاء الأصناف وأمثالهم هم سبب تسلُّط أعْداءِ الأمة وشرارها على أوطانها وخيراتها قال : >والذِي نَفْسِي بيَدِه لا تقُومُ السّاعَةُ حتّى تقْتُلُوا إمَامَكُم، وتجْتَلِدُوا بأسْيافِكُم، ويَرِثُ دُنْياكُم شِرَارُكُم<(الترمذي).
فإذا صحا المسلمون -وسيصحون بإذن الله عما قريب- آنذاك سيدمِّر الله عز وجل المستكبيرن بغير حق الذين يقولون للمستضعفين عمليا : لاحقّ لكم في أرضٍ، ولا مقدسات ولا حق لكم في كرامة سياسية، أو كرامة علمية، أو كرامة اعتراضية على المخططات الجهنمية… وسَيَأْذنُ الله للمخلصين من عباده -من جديد- بأن يدخُلوا الأرض المقدسة التي فرّطَ فيها الوَاهِنون، وضيّعها الخائنون المتواطئون، وآنذاك سيفرح المومنون بنصْرٍ من الله كما فرِحَ به الأولون يوم قال الله تعالى لهم >{ورَدّ اللّه الذِين كَفَرُوا بغَيْظِهِمْ لمْ ينَالُوا خَيْراً وكَفى الله المُومِنين القِتال وكانَ اللّه قويّاً عزِيزاً وأنْزَل الذِينَ ظاَهَرُوهُم مِن اهْلِ الكتابِ مِن صَيَاصِيهِم وقَذَفَ فِي قُلُوبِهم الرُّعْبَ فريقاً تقْتُلُون وتَاسِرُون فَرِيقاً وأوْرَثكُم أرْضَهُم ودِيارَهُم وأمْوالَهُم وأرْضاً لمْ تَطَؤُوهَا وكان اللّه على كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً}(الأحزاب : 27).
فمتى يتشرَّفُ الكونُ بطَلْعَة الصادقين والصادقات الخارجين من أصْلاب وأرْحامِ الصادقين والصادقات؟! لدَحْرَجَةِ المستَكْبِرين و المستكبرات؟! عِلْمُ ذلك عند ربّي، إلا أنّ المؤكَّدَ أن ربِّي قال : {إنّ مَا تُوعَدُون لآتٍ وما أنْتُمْ بمُعْجِزِينَ}(الأنعام : 135).
أ. الفضل الفلواتي