الاعتزاز بالهوية عنوان الثقة بالنجاح :
عندما خاطب الله تعالى المسلمين بصفة عامة بقوله {يا أَيُّها الذِين آمَنُوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كافّة}(البقرة : 206) أعطاهُم حُقْنة الشحْن الدّاخليِّ التي تجعلُهم يتحرّكون إيمانيّاً وأسْريّاً واجتماعيّاً وسياسياً واقتصاديّاً وتعليميّاً وعسْكريّاً وعِلميّاً، محليّاً وعالمِيّاً في دائرة لا تُنْكرها الفطرة السليمة، ولا تنكرها العقول الراجحة إنها دائرة >السِّلْم< أملِ النفوسِ، وأمل الشعوب، سلْمٌ لا يتحقَّقُ إلا بالدُّخول فيه قلْباً وقالباً، فكراً وشعوراً، محبّةً وسلوكاً، انتماءً واعتزازاً برفْع رايتِه، بلْ وتحدِّيا به، وجهاداً في سبيله، لجعْل البشرية التائهة تتفيأُ ظِلاله بعْد أن أرهقها السّيْرُ في صحاري الحروب الظالمة المحرقة.
إنه الهُوِيّةُ التي جاء الإسلامُ بها من أوّل مرّة، وأدْخَل المسلمين فيها، فتقمَّصُوها، ولبسوها، وانْصَبَغُوا بها، فلم تَمُرَّ عليهم بضْعةُ عقودٍ حتى دَكُّوا عُروش الظلم والطغيان دكّاً دكّاً، وبنَوْا صُروحَ الحضارة المؤسسة على العَدْل والأمن والسِّلم، حتى أصْبح الإنسان آمنا على نفسه وماله وعرضه لا يخاف إلاّ ذنبَه، يوم يلْقَى ربّه.
هذا السِّلم الذي تحقق في بضعة عقود أيامَ الزَّمَنِ المُنوَّر بالإيمان، يبحَث عنه العالم اليوم في القرن الواحِد والعشرين بتقنياته، واختراعاته، ومجالسه الأمنية، والغذائية، والصحية، والعدْلية، وكل هيآته، ومع ذلك لم يعْثُرْ عليه، بل لم يشمّ رائحته، لماذا هذا الحِرْمان من شم رائحة السِّلْم المحلي والعالميّ؟! السّلم الاجتماعيّ والسياسي؟! السلم النفسي والروحي؟!
السَّبَبُ يكمُن في أن المخاطَبِين بالدخول في السِّلم كافة خرجُوا منه كافة، وأصْبَحُوا أشباحاً في هَواجر التيَهان الفكري والعقدي والسلوكي!!
هذا الخروج مِن دَائرة الأمْر بالاقْتحام أكْسَبَ المخاطَبِين بهذا الأمْر مِنْ حَفَدَة العَرب القُدماء بلادَةً في الحِسِّ، وبلادةً في الشعور، وبلادةً في الانتماء، وبلادة في الاستجابة للإسلام. بينَما غَيْرُهُم من الذين وصَلَتْ إليهم الرسالة من غير العَرب تعامَلُوا مع الخِطاب الربانيِّ بشكْل مخالِفٍ لأصحابه الأصليين المتنكِّرين له، والعاقين لَهُ فكانت نتيجةُ العُقوق أن أخرجَهم الله تعالى من دائرة الاعتبار الإنسانيِّ، والتقدير الحضاريّ الكريم، إلى دائرة الغثائية المحلية والدّولية.
استجابة العرب الأولين استحقت ثناء الله عز وجل عليهم :
إن الله عز وجل سمى العرب الأولين بـ>الأمّيّىن< ليس ذمّاً لهم ولكن ثناءً عليهم حيث كانوا في غاية الفقه للرسالة المنُوطة بهم، وفي غاية الاستجابة لها، والتجاوب معَها، والفهم لمغازيها وأبعادها وحِكمها -رغم أمّيتِهِم القلَميّة- لأن قلوبهم لمْ تكن أمّية، ولكنها كانت قلوباً واعية، تعرف كيف ترتفع إلى الآفاق التي لا يقدِرُ اللسان أن يُحْسِنَ التعبير عنها، ولكن القَلْب يُحْسِن الالْتذَاذَ بها.
اسمـع إلى هـذه المقارنة تعْـرفْ السِّرّ :
>مَدَح بعضُ الشباب الخنساءَ الشاعـرة بالخطابة الفصيحة، فقـالت له : أنت يا ولدي لمْ تشْهَدْ الخطباءَ حقا، ولم تسْمع هانَئَ بْنَ مسْعُود حين تصدّر القوْم فـي معركة >ذِي قار< -بين العرب والفـرس- فاندفع كالرعْد القاصِف يقول :
>يا معْشَر العَرب هالِكٌ معْذُورٌ، خيْرٌ من ناجٍ فرُورٍ، المنيَّةُ ولا الدنيّةُ، استِقْبال الموتِ خيْرٌ من اسْتِدْباره، والطّعْنُ في ثغْرِ النُّحور، أكْرمُ منه في الأعْجاز والظّهور، وإن الصّبْر من أسباب الظَّفَر، يا معشر العَرب شُدُّوا واستعِدُّوا، وإلا تشُدُّوا تُرَدُّوا<.
لقد خُيِّل إليَّ يا ولديَ -وأنا أسمع هانِئَ بن مسعود- أنِّي أرَى قذَائِف تسقط من السمَاء مُلتهبةً، لا كلاماً يهتِفُ به بَطَلٌ شجاعٌ!! وقد تحقق النصر في “ذي قار” كما سيتحقق بإذن الله في معركة القادسية اليوم.
فقال لها الشاب : أنا فرِحٌ بتفاؤلك يا أمّاه، فإنه يبْعَث فينا العزيمة والمضاءَ!!
فقالت الخنساء :
>كيف لا أتفاءل يا بُنيَّ والنصْرُ اليوم أقربُ من الأمس، لقد كُنّا يوم ذي قار ندافِعُ عن الأرض فقط، أما نحْنُ اليوم فندافِعُ عن الإسلام، نُدافِع عن الحق، والحُريّة، والإنصاف.
وأبطالُ الأمْس لمْ يكُونُوا يحْلُمون بجنةٍ عرْضُها السماوات والأرْض، أما أبطال اليوم فإذا رُزِقُوا الشهادة فهم أحْىاءٌ عند ربهم يُرْزَقُون، فرِحُون بما آتاهم الله من فضْله..<.
هلْ تذَوقْتُم السِّرَّ الذي لا يحتاج إلى قراءَة وكتابة، ولا إلى مكتبات ومجلدات، ولا إلى شبكات من المعلومات، ولكن يحتاج إلى صدْر مشروح، وقلب مفتوح.
هؤلاء الأميون هُم الذين قال فيهم الله تعالى : {مِـن الــمُومِـنِـيـن رجـالٌ صَدَقُوا ما عَــاهَـدُوا اللّه علَيْه}(الأحزاب : 23)، {وألْزَمَهُم كلِمَة التّقْوَى وكَانُوا أحقَّ بها وأهْلَهَا}(الفتح : 26).
هـؤلاء الأميُّـون فهِمُوا معنى : {لـقَـدْ أنْزَلْنا إِلَيْكُم كِتاباً فِيه ذِكْرُكُم}(الأنبياء : 10)، {بلْ أتَيْناهُمْ بذِكْرِهِمْ}(المومنون : 72).
فذُكِرُوا ولمْ يُنْسَوْا أبداً، وخُلِّدُوا ولمْ يَبُوروا أبداً!!!
بل فهموا شرف معنى قول الله تعالى : {وكذَلِك أنْزَلناهُ حُكْماً عرَبِيّاً}(الرعد : 47) أي أنزل الله هذا الكتاب الأخير المشرِّع لسيْر الإنسانية باللسان العربي. فأي شرف هذا؟!
فهل قلوبُ العَرب اليوْمَ في هذا المستوى من الفهم رغم طوفَان المعلومات والمعلوميات المقروءة والمسموعة والمكتوبة؟!
إنّهُمْ اتخذوا القرآن مهجوراً، ونبذوا كتاب اللّه وراءهم ظِهريّاً فأنَّى يفْهَمُون الخطاب؟! وأنّى يسمَعون النّداء؟! نداءَ الحياة؟! نداءَ الخلود الذي سمعه الأولون؟!
الإسلامُ فضْلُ اللّه يُوتِيه من يشاءُ :
إن العَربَ كانوا أوَّل المخاطَبين بالإسلام تطبيقاً و سلوكاً ودَعوة، ولكنهم -مع الأسف- تبَلَّدَ إحْساسُهم فتنكَّروا تنكُّراً تاما لِهُوِيَّتهم يوم اسْتَجْدَوا القومية العربيّة هُويّة، وتبنّوا الفكر الاشتراكيَّ عقيدة ومذهباً، ثم عندما تحطَّم الصنمُ الاشتراكيُّ استوردُوا الفِكْر الليبراليّ عجْلاً معْبُوداً من دون اللّه، وهاهم الآن يتسكّعون بين عبادةِ الدّولار واليُورو إلى أن يظهَر معْبُودٌ حديثٌ جديدٌ يمجِّد الدّنْيا، ويُسبِّحُ بحمْد الشهوة السُّفْلية، وتمجيد السُّلطة الفردية.
فهل هي بلادةُ الإحْساس، أمْ بلادة التجاوُب مع الهُويّة؟! أم كِلَيْهما معاً؟! عِلم ذلك عند ربي.
لكن الإنسان يصاب بالاستغراب عندما يرى الفرق الشاسع بين المسلمين من العرب، والمسلمين من غير العرب!!
فأين الدّول العربية من تركيا إسلامياً، وديمقراطيا وعلميّا، وإدارياً، وسياسيا، وتفتحا ومكانة بين الدّول الكبرى والصغرى؟!
وأين الدّول العربية من نمور آسيا اقتصاداً وسياسة واختراعا وتديّنا وسياسة وديمقراطية؟!
وأين الدول العربية من باكستان الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي لولا ما ابتُليَتْ به من الزعامات المرتمية أخيراً في أحْضان الزعامة العالميّة المتآمرة على نوويَّتها بكل حِقْدٍ ومقْت وضغينة؟!
وأين الدول العربية من إيران ديمقراطيا، وتنظيما، واختراعاً، وتجنيداً، وسياسيا، وطموحاً، وتحديا؟!
أين هؤلاء وغيرهم من العرب الذين حبسوا أنفسهم في قُمقُم الحكم الاستبدادي والعمل على توريث الزعامة، والاشتغال بعبادة الشخصية التي ابتُلُوا بها منذ زمن طويل، ولم يستطيعوا التخلص منها لا ديناً، ولا فكراً، ولا سياسة، ولا أريحية، ولا تضحية بالمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة!!
إن العَرَبَ الذين أُصِيبُوا بالبلادة في القراءة للأمر الإلهي الذي قال فيه تعالى {يا أيُّها الذِين آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وللرَّسُولِ إذاَ دَعَاكُم لِما يُحْيِيكُم}(الأنفال : 24).
بلادةٌ في الاستجابة لله وللرسول سببُها بلادةُ الفَهْمِ للحياة الحقيقيّة، بينما العرب الأولُون عرَفُوا كيف يُفَرِّقون بين الحياة الدنيوية المنتهية، وبين الحياة الأخروية الخالدة، ولذلك استثمَرُوا الحياة الفانية للحياة الباقية.
والقراءة البليدة بيْن عرَبنا للحياة اليوم جعلتهم يعضُّون على الحُكم بالنواجذ، ويعضون على الدرهم بالنواجذ، ويتقاتلون على المسؤوليات والكراسي والمناصب كأنهم خالدون فيها، ولو غيَّروا ما غيّروا من القوانين والبنود الدستورية؟! ولو قتلوا ما قتلوا، وسجنوا ما سجنوا، وتآمروا ما تآمروا، وناوروا ماناوروا..!!
وبلادة الاستجابة لله والرسول جعلتهم يقْرأون مطالب الشعوب في التمتع بحقوق حريّة النقد، وحريّة التعبير، وحريّة الاحتجاج، وحرية المعارضة البناءة… يقرأون كل ذلك قراءة مقلوبة على أنها ثورة ضد النظم يجب أن تُقمع بكل حدة وصرامة.
كما يقرأون المطالبة بالديمقراطية النزيهة قراءة مقلوبة على أنها مؤامرة ضد النّظم الجامدة.
وهكذا نجد بلادة الاستجابة لله والرسول جعلتهم يقرأون كُلّ شيء قراءة مقلوبة للأمْن، والشريعة، والسياسة، والحقوق، والواجبات، والانتخاب، والتداول للسلطة، ونزاهة القضاء، وقمع الغش، ومحاسبة المسؤولين إلى غير ذلك من القراءات المقلوبة في كل مجال لا تُطبَّقُ فيه الاستجابة لله والرسول بصدق وأمانة وإخلاص.
والعلاج يكمُن في شيء واحد لا غير.
هذا الشيءُ الواحد والوحيد هو إسْلامُ الوجْهِ لله تعالى قلبا وقالبا قمة وقاعدة، أسرة ومجتمعاً، سياسة وإدارة واقتصاداً وتعليما وشارعاً ومتجراً وملعباً وقضاءً وتحاكما.
{إلاَّ تَفْعَلُوه تكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ كَبِير}(الأنفال : 74).