خضُوعُ الكوْنِ كُلِه لله تعالى :
بما أنّ الكونَ كلَّه بما فيه من موجودات جماديّة، ونباتيّة، وحيوانيّة، يعْترف بمُوجِدِه وخالقِه المتحكِّم فيه، والمُسيِّر له، فهو إنما يُتَرْجم ذلك الاعْتِراف طاعةً تامةً لموجِده، واستسلاماً كاملاً لربِّه {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَها وللاَرْضِ ايتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قالََتا : أتَيْنا طَائِعِين}(فصلت : 10) وقال تعالى : {وإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بحَمْدِه ولكِن لا تفْقَهُون تسْبِيحَهُم}(الإسراء : 44) وقـال جلّ ذكْره : {وللِّهِ يسْجُدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وما فِي الاَرْضِ مِن دَابّة والملائِكةُ وهُمْ لا يسْتَكْبِرون يخَافُون ربَّهُم مِنْ فوْقِهِم ويفْعَلُون ما يُومَرُون}(النحل : 50).
إلا الإنْسان الشّاذَّ في الكوْن بخروجه عن سنّة الفطرة، فإنه وحْده الذي يجْحدُ ربه -في عنادٍ واستكبار- ويقول {أنَا رَبُّكُم الأعْلَى}(النازعات : 24) بلْ لا يَكْتفي بانتِحال ا لربوبية فقط، ولكنه يقْفِزُ قفزةً حمقاءَ ويقول : {يا أيُّها المَلأُ ما عَلِمْتُ لكُم مِن إلَهٍ غَيْرِي}(القصص : 38).
هَلْ هناك أغْبَى مِن إنسانٍ لا يتحكَّمُ في نبضاتٍ قلْبه، ولا في حركاتِ عيْنَىْه، ولا في خلجَات صدْره، ومشاعر نفسه، وتقلّبات أحاسيسه وعواطفه؟! ولا يستطيع أن يتحكَّم في جُوعِه وظمئِه وغَلَبة نومه؟! بل لا يستطيعُ أن يغالِبَ خوْفَه وجزَعَه من الذين يعارضونه، ويُصارحُونه بحقيقة نفسه، وحقيقة خالقه ورازقِه؟! وأكثرُ من ذلك لا يستطيع أن يخلُق شيئا، أو يزيد في مُلك الله شيئا، أو ينقُص من مُلك الله شيئا، أو يُبَدِّل من نظام مُلك الله شيئا؟! ليس هناك أغْبَى -تاريخِيّاً ووجوديّا- من هذا الإنسان إلا إنْسانُ العوْلَمَة الحداثيّة الجديدة الذي فَتَح الله عليه فتوحَاتٍ علميّةً ماديّةً خارقةً لكل المكتشفات العلمية القديمة، فظن نفسَه أنه وصلَ بها إلى مرتَبة التألُّه والتجبُّر والتسلُّط والتحكُّم في خَلْق الله بدون إذْن الله وإرادته. فصار يظن أن الكَوْن كُلَّه بيْن يَديه، يديرُ شأنه كيف شاء، ويقضي في أمْره بما شاء، ولا رادَّ لقضائه، وذلك هو الطّغْيان الأكبر، الذي يَجُرُّ إلى الهلاك الأكْبر، والتدمير الأعْظم، لأنه طُغْيان على الله عز وجل بعد الطغيان على خَلْقِه المُسْتضعف!!!
لقد كان خطرُ التألُّه -في القديم- مَحْدُوداً، لأنه كان يشمل بقاعاً من الأرض دُون أخرى، كما يشمل فترةً دون أخرى، أما في العصر الحاضر فقد أصبح التألُّه عالميّاً يفرضه كبارُ العالَم على مُسْتضعفيه بقوة السلاح وقوة المال، وقوة الإعلام، وقوة التجسُّس والتدخل الاستخباراتي، وقوة التآمر وشراءِ الذِمَم والضمائر المهزوزة التي لا دينَ لها ولا مبْدَأ.
خطرٌ يتجسَّم في تغْيير القيم الإنسانية نهائيا أو تَحْريفها عن مسَارِها الإنسانيّ العامِّ، فقيمةُ الحريّة قيمةٌ سماويّةٌ وإنسانية بضوابطها وشروطها الحارسة لها من الفوْضَى والفَلَتان، ولكنها في دين النظام العالمي الجديد تعني -من جملة ما تعنيه- الحرية المطلقة في ممارسة الجنس وإنْ أدَّى ذلك إلى وجُودِ أوْكارٍ من العُهر، وجُيُوشٍ من اللّقطاء، وإن أدَّّى ذلك أيضا إلى انتشار الشذوذ الجنسي الذي يتَنَزَّهُ عنه الحيوان. كما تعني من جُمْلة ما تعنيه الفوضى الدينيّة التي تُفرِّغ الإنسانَ من كُلِّ معتقَدٍ عقلاني أصِيل، يستطيع مجابهة التألُّه الشّهوانيّ الدخيل.
وقيمة العدْل -أيضا- قيمة سماوية وإنسانية، ولكنها في دين النظام العالمي تعني الأكَابِر دُون الأصاغِر، وسكانَ الشمال دون سكان الجنوب، والمتقدّمين -مادياً وصناعياً واقتصادياً وعسكرياً- دون المتخلِّفين. أما المُسْتضعفُون فلا حق لهم في عدَالة، ولا في كرامة، ولا في ديمقراطية، ولا في حقوق إنسانية، ولا في تقدُّم علمي أو صناعيٍّ ثقيل.
جُبْنُ المتألِّهين وعجْزُهم عن المُواجهَة :
يشاءُ الله عزوجل أن يفْْضَح المتألهين وتعرِّيهم من ألوهيّتهم المزيَّفَة، حتّى يُظهِر لعباده أن هؤلاء المتألّهين أعْجَزُ من أن يُقرِّرُوا مصيرَهُم فما بالُك بتقرير مَصِير غَيرهم من مخلوقاتِ الله تعالى بدون إذنِه وأمْره وإرادته. فهذا النَّمرُود عجَز عن إطْلاعِ الشمْس من الغَرْب بدَل طُلُوعِها من الشرق كما أرادها الله تعالى. وهذا أبو جَهْل عجَزَ عن رَضْخٍ رأسِ محمد بالحجارة منعاً له من السجود لله تعالى، فما كان منه عندما عزَم على ذلك إلا أن رجَعَ هاربا لا يلوي على شيء أمام الُفَحْل الفاغِر فاهُ لابْتلاعه، أو أمام النار الملتهبة والمتشوقة لحرْقه في الدنيا قبل الآخرة.
ويشاء الله أن يُعْرِّيَ الكبارَ المتألهين في عصر العوْلمة بشيء بسيط، بسيطٍ جدّ بسيط، هذا الشيء البسيط هو مُوْتَمرُ جنيف المُنعقد في 2009/4/20 لمناهضة العُنْصريّة عالميّاً ودوليّاً، فماذا كان موقفُ الكبار أمَامَ المبادئ التي كثيراً ما تشَدَّقُوا -وما زالوا- بأنهُم ساداتُها وأربَابُها؟! كان موقفُهُم الهروبَ الجماعيَّ كالحُمُر المسْتنْفَرة التي فرّتْ من قسورة؟! لماذا الهروب؟! خوفاً من فضْح الصِّغار لهُم بوضْعِهم أمام مراياً الحَقَائِق الملْمُوسة والموَثَّقَة بالبصْم السياسي والكلام والصُّورِ النّاطِقة بالنفاق والخداع فيما يتاجرون به من القِيَم الزائفة، والشعارات الكاذبة. بل الناطقة بإغراقِهِم العالَم كُلَّه في بُحور من الدِّماء والتضْليل والتّتْييه والتّتْليف عن الطرُق الجادّة المؤدية إلى بَرِّ الأمان وشواطئ السلامة إذْ كيْف يحضُرون المُؤتمر الثانيَ لمناهضة العُنْصريّة وهُم بالعُنصريّة، سادُوا، وبالعُنْصرية تحكّمُوا، وبالعُنْصريّة هَدَّموا الشعوب والأوطان، وبالعنصريّة شَنقُوا الأحْرار، وكَمَّمُوا الأفواه، وجوّعوا البطون، ومنعُوا المظلومين من حُقوق الدّفاع والتظلُّم والتّشَكِّي، وهُم بالعنصريّة فرّقُوا شمْل الأمة المسلمة، ومكَّنُوا لعملائِهم من رِقاب شعوبها المستضعفة، ومنعُوها من شَمِّ رواِئحِ الديمقراطية، وعِطْر نسائم الحريّة الرُّجُولية!!!؟ بل هم بالعنصرية كانوا فوق القانون وفوق المحاكمة؟!
سفاهةُ المُدّعين لامْتلاك القَرَار :
إن الذين يَدّعون، أو يظنون أن العالم في أيديهم يحرِّكُونَه كيف شاءوا، ويُسيِّرونه -على حسب أهوائهم- كيف شاءوا، هُمْ في الوَهْمِ غارقون، وفي الشقاوة واغِلون، والذين يُصدِِّقُُهُم في هذا الوهْم ويسير في ركابهم -طوعاً أو كرها- هو أسْفَهُ منهم وأشقى ولو ادّعى أنه يعرف الله عز وجل ويؤمن به؟! إذ كيف يجتمع إيمانٌ باللّه عز وجل ربّاً وإلهاً معبوداً بحقٍّ له المُلك وله الحَمْد وهو على كل شيء قدير، وإيمانٌ بألوهيةِ الهوى؟! وعبوديّة البشر المُمَثِّل للْهَوى الصّارخ؟! سواء في نُكْرانه لله، أو نكْرانه لحُكْمه في مُلكه، أو نكرانه لتدبير الله لشؤون مُلكه، أو نُكْرانه لقُدرة الله عز وجل على نُصْرة عِبَاده وقهْر أعدائِه؟! وكيف يجتمع إيمانٌٌ بالله الحَقِّ المبين، وإيمانٌ بمن طلَّق الحقّ طلاقاً باتّاً وصار يُعَبِّد الناسَ لحقِّ القوة الطاغية؟!
فما أسْفَه الواهمين بأنهم يملكون كُلّ شيء من دون الله تعالى؟! وما أسْفَه الحالمين بالسيطرة على مُلك الله تعالى بدون علمه وإذْنه؟! وما أسْفهَ السائرين في ركابهم خوفاً من بطشهم بدون اعتبار لقوة الله تعالى يوم يَبْطِش البطشة الكُبْرى؟! في هذه الدّار وفي الدّار الأخرى؟!
إن الله تعالى قال لعبده محمد ولكل عباده المومنين {وما تكونُ في شَأْنٍ وما تتْلُو مِنْه مِن قُرآنٍ ولا تعْمَلُون من عَمَلٍ إلاّ كُنّا عَلَيْكُم شُهُوداً إذْ تُفِيضُون فِيه. وما يعْزُبُ عن ربِّك مِنْ مِثْقَالِِ ذرّةٍ في الاَرْض ولا فِي السّماءِ ولا أصْغَر مِن ذَلِك ولا أكْبَر إلا في كِتَابٍ مُبِين ألاَ إنّ أوْلِيَاءَ اللّه لا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُمْ يحْزَنُون}(يونس : 62). فما أشْقَى مَن يقرأُ كلامَ الله عز وجل بهذا الوضُوح!! وهذا التحكُّم!! وهذا العلم الدقيق!! وهذه القوة التي لا يقف أمامَها شيء!! وهذه الحماية التامة -ظاهراً وباطناً وعاجلاً وآجلاً- لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين!! ومع ذلك يفضِّل عبادَة هَوَى السفهاء؟! ويُفضِّل المشْيَ في ركاب الأشقياء؟!
مَصِيرُ السّفَهاءِ الواهِمين :
إن الله تعالى وضَّح لنا في القرآن العظيم تاريخَ المجرمين من عهْد نوحٍ \ إلى عهْد محمد ، وضّحه توضيحاً يشمل جميع َ أنواع الإجرام، لكي يكون المسلمون على بيِّنة من أمْر أعدائهم في كل وقت وحين، لأنهم لا يزيدون عن تكرار نفْس الإجرام بوسائِل العصْر وتقْنيَاتِه المسْتحدَثة لتحْقيق نفس الأهْداف ِ التي توخَّاها المجرمون في عهد نوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام جميعا.
كما وضّح الله تعالى سنّتَه الأزليةً الدائمة في إهْلاك أعْدائه ونُصْرة أوليائه المجاهدين في سبيله نصراً لا يسْتطيعُ المُجْرمُون المتألِّهُون ردّ ما أرادَ اللّه عز وجل قضاءَه فيهم، ليبيِّن الله تعالى للمسلمين أنّ المُجْرمين لا يسْتطيعونَ أبداً تقْرِير شيْء من شؤون الكون بدون عِلْم الله تعالى وإرادته، ولكنهم -فقط- يُقَرِّرُون مصيرَهم الأسْوَد البَئِيس!!!
وهذه مجرَّدُ عيِّنَة صغيرة من مَصِير المُجرمين الماكرين : > إن مُجْرمي قوم صالح \ بيَّتُوه هو ومن آمن به ليفتكوا بهم فتكاً شنيعاً، فقال الله تعالى فيهم : {ومَكَروا مَكْراً ومَكَرْنا مكْراً وهُمْ لا يشْعُرُون فانْظُر كيْفَ كان عاقِبَةُ مكْرِهِم إنّا دمّرْناهم وقوْمَهُم أجْمَعِين فتِلْك بُيُوتُهم خاوِيةً بِما ظَلَمُوا إنّ في ذلِك لآيةً لقوْم يعْلَمُون وأنْجَيْنا الذِين آمنُوا وكانُوا يتّقُون}(النمل : 55) فمن يملك الأمْرَ أيُّها المجرمون المتكبرون؟! ومن يمْلك الأمر أيّها المُتهافِتون على أعتاب المجرمين تسْتجْدُون فُتَات الحُلول؟! وفتاتَ العزة والدّعْم والسند؟! إنّه الجهْلُ الغليظ الذي به يُحْجَبُ المجرمون والمتواطِئون عن رؤية هذه الحقيقة، ويكشفُها الله عز وجل لعباده المومنين المتقين؟! > وفِرعون قال {إن هؤلاءِ لشِرْذِمَةٌ قلِيلُون وإنّهُم لنَا لغائِظُون وإنّا لجَمِيعٌ حَذِرُون} فماذا كانت النتيجة؟! كانت {فأخْرَجْناهُم من جَنّاتٍ وعُيُونٍ وكُنُوزٍ ومقامٍ كرِيمٍ}(الشعراء : 54- 58).
فجنِّدوا ما شئتُم أيها المحاربون للإسلام اليوم!!! وتسلّحُوا ما شئْتم!! واجْمَعُوا من العُملاء ما شئتُم!! فاللّه القَاهرُ من فوقكم ومن ورائكُم محيط!! فعندما يوجَدُ المومنون المتقون الذين يتحَدَّونكم بهذا الدِّين وحده، ويقولون ما قال نبيُّنا محمد {إنّ ولِيِّيَ اللّه الذِي نزَّل الكِتابَ وهُوَ يتوَلّى الصّالِحين}(الأعراف : 196) آنذاك بأسْلحتِكم تُخْنَقُون، وبقوتكُم تُدمَّرُون، فمهما تكبّرتُم وتعجْرفْتُم واغْتررْتُم ومكرتُم فاللّهُ خَيْرُ المَاكرين، والحمد لله رب العالمين.