الإسّلامُ عقيدةٌ وشريعةٌ :
للإسلام جانبان : جانبٌ باطنيٌّ، وجانبٌ ظاهريٌّ عمليٌّ تَطْبيقيٌّ.
أما الجانب الباطني فيتمثَّلُ في :
أ- الاعتقاد بأن للْكَون بأرضه وسمائه وإنسانه وحيوانه ربّاً و احداً هو خالقُه، ومُدبِّرُ أمْرِه، وهو مسخِّرُه للإنسان ليكُونَ خليفةً عن اللّه في كونه بأمْره.
ب- الاعتقادُ الجازم بأن الرَّبَّ المتفرِّدَ بالخلْق لكُلِّ شيء هو وحْده المستحقُّ للعبادة، لأن غَيْرَه مخْلُوقٌ مسخَّرٌ مُدبَّرٌ أمْرُه، مُقَدَّرٌ وظيفَتُه ودَوْرُه، مُقَدَّرٌ رزقهُ وأجَلُه، لا يستطيعُ أن ينفعَ أو يضرّ بدون إرادةِ حاكِمِه المسيِّر لشأنه كله.
جـ- الإشْراكُ باللّهِ ربّاً، أيْ الاعتقادُ بأن غَيْر اللّه يستطيعُ أن يخلُق مع الله، أو يكُونَ لهُ تأثيرٌ خارجَ إرادة الله تعالى، وكذلك الإشراكُ بالله إلهاً أي مستحقّاً للعبادة وحْده… كُلُّ ذلك يُعْتبرُ سفاهةً وخروجاً عن سُنّّةِ الفطرة السليمة.
د- الاعتقادُ الجازمُ بأن اللّه عز وجل كافٍ عبْدَه مادّيّا ومعنويّاً، أي رزْقاً وصحةً ورعايةً وتطميناً وتفريجاً لكل الكرب والأزمات، ونصراً لهُ على النفس والهوى والشيطان وعلى كل ماكِر به أو متربِّصٍ.
أمّا الجانب الظاهريُّ أو العمليُّ أو التطبيقيُّ للإسلام فيتمثل في شَيْئَىْن اثنيْن هما : امتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
امتثال الأوامر يشمل :
أ- الإتيانَ بأرْكَان الإسلام : من صلاةٍ، وزكاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ بعْد الإيمان الصادق، لأن تلك الأركان هي بُرهَانُ الصدق في الانتماء للإسلام، والانتماء لربِّ الإسلام.
ب- الإتيانَ بالأخلاق التي تتولَّى أركانُ الإسلامِ غرسَها في النفوس الصادقة من صِدْق في القول والعَمل والفكر و التخطيط والدّعوة، ومن خشية لله في السر والعلانية، ومن عفة شاملة وانْصباغٍ بالسّمت الربّانيّ مخْبراً ومظهراً وسُلوكاً نظيفاً، فرداً، وأسرة ومخالطة للمجتمع، وقياماً بالواجب، وأداءً للحقوق.
حـ- الإتيان بالأسُس المُدَعِّمة لبناء المجتمع الصالح، من عدْلٍ في القول، والحُكْم، والشهادة، و النظرة، والاعتبار، ومن إيثار للمصلحة العامة، وحُبِّ التضحية في سبيل الواجب، بدون انتظار مقابل.
أما اجتناب النواهي فيشمل :
أ- الابتعادَ عن كُلِّ مفسدات الدين، من زندقة، وإلحاد، وشك وارتياب، وعن كل إشاعة تُبَلْبِلُ المعتقَد الصحيح، أو تُخلخِلُ أسُسَ الإيمان المتين.
ب- الابتعادَ عن كُلّ مفسدات العِرض، من فُحْش في الفكر أو القول أو الفعل سواءٌ في السِّرّ أو العَلَن حتى لا تَتَدنَّس أخلاق الفرد والمجتمع بالوضاعة البهيميّة.
حـ- الابتعادَ عن مفسدات العقل بأي نوعٍ من أنواع الإفساد، سواء كان إفساداً عن طريق المُسكرات أو المخذِّرات أو المفتِّرات أو المُلْهِيات أو المُغريات.
د- الابتعادَ عن مُفْسدات المال والاكتساب، سواءٌ عن طريق الغش، أو السرقة، أو الغصْب والنهب، أو عن طريق الارتشاء، والمحسوبية واستغلال النفوذ… كُلُّ ذلك يُعتبر إفساداً يعقُبه السّحْق والمحق.
هـ- الابتعادَ عن التآمُر على وحْدة المجتمعات الإسلامية، بإنشاء طرُق التديُّن المغشُوش، أو انشاءِ أحزاب تعمل سرّاً أو جهراً على طَمْس معالم الإسلام ومبادئه في كُلِّ مرْفق من مرافق المجتمع، وفي كل مجال من مجالات الحياة الخاصة والعامة.
إنكَـارُ شَيْء مـن العَقيدة أو الشريعَة يُعْتَبَرُ خِيانةً ونفَاقاً : الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه كُلّ لا يتَجزّأُ، وبُنيانٌ لا يتبعَّض، فهو كما عرَّفه العلماء >اعتقادٌ بالجَنَان، وقولُ باللسان، وعمَلٌ بالأركان< أو هُوَ إيمانٌ وعَمَلٌ صالحٌ في كُلّ ميدان يرْقَى إلى درجَة الإحسان، مع العناية بالأسْوار المعنويّة التي تصُونُ نضارتَهُ وأنوارَهُ من الخُفُوتِ والانطفاءِ، فإذا ما تهاونَ المُسْلِمون في التطبيق أو الصيانة اعتُبِرَ ذلك خيانةً لله وللرسول، وخيانة للأمانة التي حمّلَها الله عز وجل الإنسان من دون باقي المخلوقات، واعتُبر مُروقاً من الدين يسْتَوْجبُ الخِذْلان والهوان والخسران.
فمتى يستحقُّ المنتمُون للإسلام الخذلان والهوان؟!
يستحقون ذلك :
عندما ينسَوْن اللّه عز وجل فيعيشون هائمين لا يرفعون رؤوسهم للسماء، ولا يعرفون لأنفسهم هدفاً في هذه الحياة، ولا كيف يدّخرون لأنفسهم رصيداً لما بعد هذه الحياة، بل لا يعرفون كيف يرتفعون إلى التّسَامي فوق مستويات الاهتمامات الحيوانية، يعيشون أُناساً بدون إنسانية، وبشراً بدون هويّة، نَسُوا الله عز وجل فأنساهم أنفسهم. ولخطر نسيان الله تعالى على الفرد والمجتمع والأمة كان النهي القرآني {ولا تكُونُوا كالذِين نَسُوا اللّه فأنْسَاهُم أنْفُسَهُم أولئِك هُم الفَاسِقُون}(الحشر : 19).
لا رسالةَ للنَّاسِي ربَّهُ :
للكافر وظيفة دنيوية، وحضارة مادية -وإن كا ن يسْفِك الدّماء، ويُفسِدُ في الأرض- لأنه يمْلأ الفراغ في انْتِظار تهْييء ووجُود الإنسان الصالح المُصْلِح الذي به يُزْهقُ الله عزوجل الباطِل ويُحِق الحق، لأن الحضارةَ الدنيويّة الماديّة جُزْْءٌ من الاستخلاف في الأرض، وجزءٌ من الاستعمار للكون وتسخيره لمصلحة الإنسان، ولكنها حضارة فيها ظلمٌ وعَسْفٌ واستغلالٌ للقوة المادية بغير حق، وفيها انحراف عن الفطرة السليمة بالتكبُّر على الله تعالى وجُحود فضله ونعَمه وإحسانه، فلذلك يبْعث الله عز وجل الرسُل ليعَدِّلوا السَّيْر، ويُرشِّدُوا التسخيرَ والانتفاعَ بالشكْر لربّ الكون والإنسان، حتى يعْتَدِل الميزان، ويُصْبح الإنسان آكلاً شارباً راكباً باحثا متمتِّعاً بالحياة الدنيوية، ولكنّهُ في نفس الوقْت حامدٌ شاكرٌ متواضِعٌ لربِّ العزة، عاملٌ في الدنيا بجدٍّ واجتهاد ولكنَّهُ في نفس الوقْتِ مستحضرٌ الوقوف بيْن يَدَيْ ربِّه مالكِ الدنيا والدِّين، يوْمَ الفصْلِ والدِّين.
عندما يوجَد الإنسانُ الصالح المُصْلح يُنْشء حضارةً إسلامية -بتوفيق الله تعالى وهدايته ونصْره- على أنقاض الحضارة المادية الجاحدة المتكبرة، ولا يتم هذا التداوُل الحضاريُّ بين حضارة المادة، وحضارة القيم إلاّ إذا كان الإنسان الصالحُ المصلحُ يفوق الإنسان الماديَّ عِلْماً بالله تعالى، واسْتمساكاً بهداه وشريعته، وتفانياً في إكْرام الإنسان وخِدْمة مصالحه العُلْيا ابتغاءَ مرضاة الله تعالى فقط، زيادة على العلم بالسُّنن الكونية، والسُّنن الاجتماعية، وزيادة على العلم العميق بقوانين التّسْخير، وقوانين التدبير لشؤون التسْيير الرشيد، وشؤون التغيير السديد، حتى يكون الصالحُ المصلح جامعاً بين علوم الدنيا والدين في تواؤُمٍ وتآخٍ لا يُحسُّ معهما الإنسان بالتضَادِّ والانفصام. آنذاك تقوم للأمة المسلمة قائمة لا يقف دونها شيء، لأنها أمة رأْسُها في السماء ورجلُها في الأرض، جَسَدُها في الدنيا وهِمَّتها الفوْزُ الخالد في الأخرى.
أما المنافِقُ الناسِي ربّه فَلاَ وظيفةً له في الحضارة، ولا دوْر له في الحياة، لأنه يعيش مُزدَوج الشخصية، يعيش بشكْل إسْلامي بَئِيس، وبقلبٍ كافر مريض، ولذلك لا مُعَوَّل عليه لا في حضارة المادة، ولا في حضارة القيم، لانعدام شخصيته، وميوعة كيانِه، فهو مجرّدُ معوَل في يد الكُفر الصريح لتهْديم الإسلام الصحيح، أنعْجب بعد ذلك إذا كان الله تعالى توعّد الكافرين بسُوء المصير في النار، وتوعّد المنافقين بالدّرك الأسْفَل من النار.
خُطورة إسْنادِ الأمُور إلى النّاسِينَ لرَبِّهِم :
إذا كانت الأمة الإسلامية ابتُليَتْ -مُبَكّراً- بمَنْ مزَّق شمْلَها، وفرَّق كلمتَها، ووزَّع شتاتَها، واستبَدَّ بأمْرها، وضيَّع رسالتَها، وأذَلَّ علماءَها ودُعاتَها… حتى جعَلها -في النهاية- مُسْتحْمَرة لا تئِنُّ من الوطأة الثقيلة للاستعْمار العالميِّ، ولا تتبَرَّمُ بفكْره، وثقافته، وغَمْزه، ولمْزه، وطعْنِه للدين والخلُق، ولا ترفع رأسا لزحْزَحته عن الأرض والعِرض… فإن الرسول كثيراً ما حذَّرنا من إعْطاءِ الفرصة للسفهاء ليقودُوا الأمة إلى هاوية الإذْلال.
ولكن مَن يتعظ؟! ومن يفقَه المَرامِيَ البعيدةَ للتحذيرات النبويّة؟! وقبل ذلك التحذيرات القرآنية؟!
> فما معنى قول الله تعالى : {ومن النّاسِ من يُعْجِبُك قولُه في الحَياة الدّنيا ويُشْهِد اللّه على ما فِي قَلْبِه و هُو أَلَدُّ الخِصَامِ وإذا تَوَلَّى سَعَى في الارْضِ ليُفْسِد فِيها ويُهْلِك الحرْثَ والنّسْل واللّه لا يُحِبُّ الفسَادَ وإذا قِيل لَهُ اتّقِ اللّه أخذَتْهُ العزّةُ بالاِثْمِ فحَسْبُه جَهَنّم ولبِيسَ المِهَادُ}(البقرة : 204). أليْس معناه التحذيرَ من إتاحة الفرصة للمستبدّين المُفْلسين -إيمانياً- حتى لا يعيثُوا في الأرْضِ فساداً؟!
> وما معنى قول الرسول : >إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غَيْر أهْلِه فانْتَظُروا السّاعَة<(رواه البخاري) وهلْ هُناك ساعة أكبرُ من أن تَرى الأمة المسلمة كُلَّها لا تزِن في الميزان الدولي جناحَ بعُوضة؟!
> وما معنى قول الرسول : >لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى يكُونَ أسْعَدُ النّاسِ بالدّنيا لُكَعَ بنَ لُكَع<(رواه الترمذي) فمن يصولُ ويجُول في الدّوائر العليا والدوائر التنفيذيّة غير اللّكَاكِعَة أبناء اللّكاكعَة؟! > وما معنى قول الرسول : >سَيأتِي على النّاس زَمانٌ لا يُنَالُ المُلْك فِيه إلاّ بالقَتْلِ والتّجبُّر، ولا الغِنَى إلا بالغَصْبِ والبُخْل، ولا المحبَّةُ إلا باسْتخراج الدّين، واتباعِ الهَوَى، فمَن أدْرَك ذلك الزمان فصَبَر على الفقْرِ وهو يَقْدِرُ على الغِنَى، وصبَر على البِغْضَةَ وهو يقْدِرُ على المحبَّة، وصَبَر على الذُّلِ وهو يقدِرُ على العِزّ، أتاهُ الله ثَوابَ خَمْسين صِدِّيقاً مِمَّنْ صدَّق بِي<(منهاج الصالحين) فمن يسُوق شُعوب الأمة بالعَصَا والبلايين غيْرُ الغَاصبين لكرامة الأمة وثرواتها؟!
> وما معنى قول الرسول : >يأتِي على النّاسِ زمانٌ هِمَّتُهم بُطُونُهم، وشرَفُهُم متاعُهم، وقِبْلَتُهُم نساؤُهُم، ودِينُهم درَاهِمُهم، أولئِك شِرارُ الخَلْقِ لا خلاقَ لهُم عِنْد الله<(رواه الدّيلمي).
فهل تنتظر الأمة رُشداً وصلاحاً من عُبّاد الطين والتُّراب، الذين ضَيَّعُوا الدين ونسُوه، وبَنَوْا التراب وشيَّدُوه؟!
إن هؤلاء الذين أشار إليهم القرآن، وأشارت إليهم الأحاديث النبوية كُلُّهم ماتُوا موتاً سياسيّاً مقيتا، ولا يُنتَظَرُ منهم إلاّ أن يقتُلوا الأمة ويُميتوها موتاً سياسياً سحيقاً، لا يُوقِظُها منْه إلا انْبِعاثَُ طائفةٍ ربانيّةٍ تبعَثُ الأمل في الأمّة من جديد، وتأخذ بيدها لحمْل رسالة ربها من جديد رحمة للعالمين وإنقاذاً للبشرية من ظلم الظالمين.
أ.ذ. المفضل الفلواتي