أ- الـتـعــقـيـبـات :
> قال تعالى في الإسراء :
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكوراً وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدُنَّ في الارض مرتين ولتعلُنَّ علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن احسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن اسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبِّروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيراً وأن الذين لا يومنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا اليما}(الإسراء : 1- 10).
> وقال تعالى في المعراج :
{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مِرّة فاستوى وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو ادْنَى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة مـــا يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى مــن آيات ربه الكبرى}(النجم : 1- 18).
ب – الـمـســتفـادات :
1) الإسراء والمعراج قمة التكريم الرباني :
إذا كان الله عز وجلّ سلَّى رسوله :
> بهداية عدّاس والإتيانِ به ليُقبِّل الرِّجْل التي أدْماها السّفَهاء الذين لا يعرفُون قدْر هذه الرِّجل السّاعية لخير الإنسانية وإنقاذِها من الضلال، لكَيْ يقُول لحبيبه محمد إذَا كفَر بدعْوتِه المُتكبرون فإن المُسْتضْعفين في كل بقاع الأرض منتظرُون لهذه الدعوة بكلِّ شوق وتلهف ورغبة.
> وسَلاّه أيضا بالإتيان بالجنّ ليومنُوا به وينقَلِبوا إلى قومهم دُعاةً لدعوته، ليقول أنتَ لسْت رسولاً للإنْس فقط، ولكنك رسولٌ للإنس والجِنِّ، فإذا كفر بك المتكبرون من الإنس فالمستضعفون من الجن يومنون بك، وإذا كان المتكبرون من الإنس خذلُوك، فإن المستضعفين من الجن والإنس هم جُنُودُك، بالإضافة إلى ما عند الله من جنودٍ لا يحصيها إلا هو سبحانه وتعالى، وهل يقْدِر السفهاءُ على حَجْبِ دعْوتك عن طُلاّب الحقِ من الجن والإنس؟!
> وسلاّه الله عز وجل بنزول مَلَك الجبال ليبلِّغَه رضا الله عنْه، وأن الله عز وجل جَعَل مَلَك الجبال رهْن إشارته ليأْمُره بما شاء، إذا أحبَّ تأديبَ السُّفَهاء، ولكن الرسول تعالى عن مقام الانتقام، فهو رسولُ دعوة، وليْس رسُول مصْلحَة، وصاحبُ الدّعوة ينْظُر إلى المُسْتقْبل ويعْزفُ عن الحاضر، فإذا كان السفهاء الآن غيرَ مستعدين لقبول الدّعوة وفهْمِها وفهم مراميها فسوف يأتي الله بأبنائهم -وقد انقَشَعَتْ عن أبصارهم غِشاوة الجاهلية- ليَحْمِلُوها ويكونوا جنودها المخلصين.
بعد هذه التسليات والتسرياتِ كانت المكافأة الكبرى للرسول الصابر المحتسب الراضي بقضاء ربه بالإسراء والمعراج :
قال أبو بكر جابر الجزائري : >كان الإسراء والمعراج مكافأة ربّانية على ما لاقاه الحبيب من أتْراح وآلام وأحْزَانِ، إذْ كان بعد حِصَارٍ دام ثلاثَ سنواتٍ في شِعْب أبي طالب، وما لاقى أثناءَه من جوع وحِرْمان، إنّه كان بعْد فقد الناصر الحميم، وبعْد فقد خديجة أم المومنين رضي الله عنها، وإنه كان بعْد خَيْبَة الأمَل في ثقيفٍ وما نَالَه من سُفَهائها وصِبْيانها وعبيدها، بعد هذه الآلام كافأ الحبيبُ حبِيبَه فرفعَه إليه وقرّبه وأدْناه، وخَلَع عليه من حُلَلِ الرضا ما أنْساه كُلًّ ما كان قد لاقاه، من حُزْن وألَم ونصَب وتعب، وما قد يلاقيه في سبيل إبلاغ رسالته ونشر دعوته<(هذا الحبيب يا محب ص 135).
2) الإسراءُ والمعراج إعلانٌ ربّانيٌّ عن انتقال القيادَة الرُّحيّة من أُمّة إلى أُمّة : قال صفي الرحمان المباركفوري :
يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم :أخذ في ذكر فضائح اليهود وجَرائمهم، ثم نبّهَهُم بأن هذا القرآن يهدي للتي هِي أقْومُ، فربّما يظنُّ القارئ أن الآيتَيْن ليس بيْنَهما ارتباطٌ، والأمْرُ ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسْراء إنما وقَع إلى بيْتِ المقْدس، لأنّ اليهودَ سيُعْزَلُون عن منْصب قيادة الأمّة الإنسانيّة، لِمَا ارتكَبُوا من الجرائم التي لمْ يبْق معَها مجالٌ لبقائهم على هذا المنْصب، وأن الله سينقُل هذا المنصِب فعلا إلى رسوله ، ويجْمَعُ لهُ مرْكَزَيْ الدّعْوة الإبراهيميّة كِلَيْهما -أي الكَعْبة والأقْصا- فقد آن أوانُ انتقالِ القيادة الرُّوحية من أمّة إلى أمّة،… من أمّة ملأَتْ تاريخها بالغَدْر والخيانة والإثم والعُدوان، إلى أمَّةٍ تتدَفَّقُ بالبِرِّ والخيرات، ولا يزال رسُولُها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم.
ولكِن كيف تنتقِلُ هذه القيادةُ والرسُولُ يطوف في جبال مكة مطروداً بين الناس؟! هذا السؤال يكشِف الغِطَاء عن حقيقة أُخْرَى، وهي أن دوْراً من هذه الدعوة الإسلامية قد أوْشَك إلى النهاية والتمام، وسيَبْدأ دورٌ آخرُ يخْتلف عن الأول في مجْراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتَمِل على إنذار سافِر، ووعيد شديد، بالنسبة إلى المشركين {وإذَا أرَدْنا أن نُهْلِكَ قريةً أمرْنَا مُتْرَفِيها ففَسَقُوا فِيهَا فحَقَّ عليها القوْلُ فدمّرْناها تدْمِيرا}(الإسراء : 16). وبجَنْب هذه الآياتِ آياتٌ أخْرى تُبيِّن للمسلمين قواعِد الحضارة وبُنُودها ومبادئِها التي يُبْتَنى علَيْها مجتمعهم الإسلاميّ، كأنهم قد أوَوْا إلى أرْضِ تملَّكُوا فيها أمُورَهم من جميع النواحي، وكوَّنُوا وحْدةً متماسكةً تدور عليها رحَى المجتمع، ففيه إشارةٌ إلى أن الرسول سيجد ملجأً ومأْمناً يسْتقرُّ فيه أمْره، ويصير مركزاً لبثِّ دعوته في أرجاءِ الدنيا.
هذا سِرُّ من أسرار هذه الرِّحلة المباركة يتصل ببحثنا فآثرنا ذِكره.
ولأجْل هذه الحكمة وأمْثالها نرى الإسْراء إنما وقع إمّا قُبيْل بيْعَة العقبة الأولى أو بين العقَبَتَيْن، والله أعلم<(الرحيق المختوم 145- 146).
3) معجزة الإسْراء أنّه إسراءٌ بالجَسَدِ والرُّوح :
قال القاسميُّ رحمه الله تعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء {سُبْحان الذِي أسْرَى…} >دلَّتْ هذه الآية على ثبوت الإسراء، وهو سَيْرُ النبي ليلا إلى بيت المقدس، وأما العروج إلى السماوات فهذه الآية لا تدل عليه، ومنهم من يستدِلُّ عليه بأوَّل سورة النجم<(محاسن التاويل 187/10).
أمّا فيما يخص الإسراء فهل كان بالروح فقط أم بالجسد والروح، قال القاضي عياض : والصحيحُ إن شاء الله أنه إسْراءٌ بالجسد والروح في القصة كُلِّها، وعليه تدُلّ الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يُعْدَل عن الظّاهر والحقيقة إلا عنْد الاسْتحالة -أي عند وجُودِ قرائن تدل على أن الظاهر غيرُ مُرادٍ :
> إذ لوْ كان منَاماً لقال برُوحِ عبدِه، ولمْ يقُل بعبْده، لأنّ العبْد جَسَدٌ وروح.
> وقال تعالى {مازَاغَ البَصَرُ وما طَغَى}(سورة النجم) والبصر يكون في الجسم وليس في الروح.
> ولو كان مناماً لمَا كان فيه آيةٌ ولا مُعْجزة.
> ولو كان مناماً لما استَبْعده الكفار، ولا كذبوه، ولا ارتدّ به ضُعفاءُ من أسلم، وافتَتَنُوا به، إذْ مِثْل هذا من المنامات لا يُنكَر.
بلْ ما كان ذلك التكذيب وذلك الافتتان إلاّ وقد عَلِمُوا أن خَبَره -والإخْبار به- إنما كان عن جِسْمه وحال يقظتِه(الشفا 189/1 بتصرّف في التوضيح).
4) بركات الأقصا :
قال القاسمي في قول الله تعالى {باركنا حوْله} أيْ جوانبَه ببركات الدين والدنيا لأن تلك الأرْض المقدسة مقرُّ الأنبياء، ومهْبِطُ وحْيِهِم، ومنْمى الزروع والثمار، فاكتنفتْه البركةُ الإلاهية من نواحيه كلها، فبركته إذَنْ مضاعَفة، لكونه في أرض مباركة، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى، والمساجدُ بيوتُ الله، ولكونه متعبَّد الأنبياء، ومهبط وحيه عليهم، فبُورك فيه ببركتهم ويُمنِهم أيضا(محاسن التاويل).
5) خصائص الأقصا وفضائله :
إنه مُتعبَّد الأنبياء السابقين، ومَسْرى خاتم النبيئين ومعراجه إلى السماوات العُلَى، والمَشْهَدِ الأسْمَى، بيتٌ نوّه الله به في الآيات المفصلة، وتُليَتْ فيه الكُتب الأربعة المنزلة. لأجْلِه أمْسَك اللّه الشمسَ على يُوشُعَ أن تَغْرُب ليتيَسَّر فتْحُه على مَن وُعِدُوا به، ويقْرُبُ. وهو قِبلة الصلاة في المِلَّتَيْن، وفي صَدْر الإسلام بعْدَ الهجْرة، وهو أولَى القِبلتين، وثاني المسجديْن، وثالث الحرَمين، لا تُشَدُّ الرّحال بعد المسجدَيْن إلا إِلَيْه، ولا تُعْقَد الخناصِرُ بعْد الموْطِنَيْن إلا عليه(محاسن التاويل للقاسمي).
ومن فضائله ما رواه الأئمة أحمد والنسائي والحاكم وصحّحه عن ابن عمرو قال : قال رسول الله : >إن سليمان لَمّا بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتَيْن، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة :
سأله حكما يصادف حكمه، فأعطاه إياه.
وسأله مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه.
وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -بيت المقدس- خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.
قال النبي : ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك<(محاسن التاويل 185/10). 6) لا دَوَام لاحتلال المسجد الأقصا :
لقد احتَلّ الصليبيُّون المسجدَ الأقصا ودنّسوه، ولكن عنْدما استيقظَ المسلمون وأخْلصُوا العمَل لله، ووجَدُوا القائد المخلص صلاح الدين الأيوبي كتب لهم النصر، فخطَب فيه إمامُ الجمعة في أول صلاة تُقامُ بعد عودته، فابتدأ خطبته بقوله تعالى {فقُطِعَ دابِرُ القَوْم الذِين ظَلَمُوا والحَمْد للّه ربِّ العالمِين}(الأنعام : 45)(محاسن التاويل 185/10).
فكما قطع الله عز وجل دابر الذين احتلوه في المرة الأولى، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يسألون الله تعالى أن يقطع دابر الذين احتلوه في المرة الثانية، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
ذ. المفضل الفلواتي