من بصائر الحسن في القرآن الكريم 2/1


ذ. عبدالمجيد بالبصير

أولا : فـي أن فقه حُسْن الدين روح فقه الدعوة إلى الله :

القرآن الكريم محض هدى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 9) وهدى القرآن محض حسن {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني}(الزمر : 23).

وفقه حسن الدين روح فقه الدعوة إلى الله، ولعل حاجتنا إليه اليوم أكبر وآكد من كل يوم، ذلك أن جمالية الإسلام وبنحو ما عبر خبراء الجمال الدعوي بضاعة طيبة لكن مستثمرها الآن فاتر، وزخارف الكفر بضاعة خبيثة لكن مروجها شاطر.

إنه شتان بين زخرفة تسحر العيان وتسترهب الإنسان، يخرجها مَرَدَةُ الإعلام والفضائيات، ويصنعها شياطين الغرب في مراكز البحوث والدراسات، إذ {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}(الأنعام : 112) وبين حسن ينطلق بالإيمان بالله سبحانه من القرآن والسنة البيان ليملأ الوجدان والعمران بالأمن والاطمئنان.

إن الحس الجمالي في القرآن ينبني على استلهام الإنسان أسرار الجمال الإلهي في الخلق والأمر، استلهاما يرنو به إلى محاسن الإيجاد والإمداد والإرشاد بطريق الترتيل الإيماني، ليتهيأ له تحصيل جمال الاتباع بعد حسن الاستماع على سبيل التشكيل التربوي.

فالتلازم بين الترتيل والتشكيل(1) -أي بين القرآن والعمران- في منظومة الحسن القرآني مطلوب فيه أن يكون منطقيا رتبيا، إذ متى تحقق التبين الإرادي لجمال كماله سبحانه في ذاته وصفاته وأفعاله، لزم تحقيق الامتثال العبادي لمحاسن شرائعه وتعاليمه وحدوده، وأي تخلف لهذا الاطراد المتيسر في حده الأدنى لكل عاقل، لابد أن يعود على أصل جمالية التدين بالإبطال.

ومن هنا يفهم مدى الارتباط الوثيق بين الإخبار عنه سبحانه باستحقاقه الأسماء الحسنى واختصاصه بمفاداتها، وبين الأمر بتسبيحه ودعائه جل وعلا بها، كما في قوله تعالى {ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها}(الأعراف : 180) وقوله {له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض}(الحشر : 24).

فاللام في قوله {له} وقوله {ولله} لام اختصاص استحقاقي، والتسبيح في الآية الأولى لا ينصرف إلى مجرد التسبيح اللساني، وإن ما يتعداه إلى الغوص في المعاني معاني أسماء الله الحسنى، بمعنى أن التسبيح نتيجة انفعال نفساني أساسه تفكر إيماني في ملكوته سبحانه >تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله<(2). والشاهد ما وصف به سبحانه أولي الألباب من الذاكرين المتفكرين أواخر آل عمران {ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك}.

وأما الدعاء في قوله سبحانه {فادعوه بها} فلعله منصرف إلى حسن العبادة كما في قوله >الدعاء هو العبادة<(رواه أبو داود والترمذي). وذلك لما يكون عليه حال الداعي المخلص من الخوف والرجاء مع الإلحاح في الدعاء كما في قوله سبحانه عن حال المخلصين من المرسلين {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}(الأنبياء: 89)، وهو مقام لا يتأتى إلا لمن تخلق بخلق مشتق من كمالاته سبحانه التي تدل عليها أسماؤه الحسنى وصفاته العلى، بحيث يستخلص من اسمه تعالى الرحيم خُلُقُ الرحمة ومن اسمه العدل خلق العدل ومن اسمه القوي خلق القوة في الحق ومن اسمه النصير خلق النصرة للمستضعفين، فيتخذ من ذلك أو بعضه على قدر استطاعته سلوكا له.

وعليه فالمعنى الأول الذي هو تعرف معاني أسمائه الحسنى المفضي إلى تسبيحه تعالى بها، والمعنى الثاني الذي هو التخلق بأخلاق مشتقة من كمالاته سبحانه لعبادته وشكره بها، كلاهما قوام معنى الإحصاء(3) في قوله  : >إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة<(متفق عليه). فالإحصاء في الحديث لا يراد به مجرد الاستظهار اللساني، وإنما ينصرف ابتداء إلى الحفظ النفساني الذي يدرأ عن القلب الغفلة عن الله ويفضي إلى قَدْرِه سبحانه حق قدره. فقد أثر عن الخليفة عمر بن الخطاب ] >أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه<(4) فمتى لازم المرء هذه الحال كان علنه جميلا وسره جميلا وكان بذلك في كنف الحب الرباني الجميل >إن الله تعالى جميل يحب الجمال<(رواه مسلم).

ثــانـيا : فــي حسـن الإيجـاد :

من بديع إحسانه سبحانه أن جعل كل شيء في الوجود وافيا بالمقصود منه بما أودع فيه من نواميس يهتدي بها إلى أداء وظيفته بالإلهام أو بالتكليف. فأمر الله التكويني يجري في المخلوقات وفق صنع متقن وحكمة بليغة يلوح معهما أنوار الجمال وأسرار الجلال على قدر التلقي تدبرا وتفكرا، حتى إذا غمر الفؤاد من ذلك الحسن علم اليقين أبصر حقيقة {فتبارك الله أحسن الخالقين}(المؤمنون : 14).

ورغم أن حسن خلق الإنسان مدمج في حسن خلق الأكوان إلا أن له مزية خاصة عن سائرها تؤذن باهتمام القرآن بها أيما اهتمام، ويشهد لذلك سياق الإخبار عنه بحيث يرد مقرونا مع حسن خلق سائر الخلق كما في آية المؤمنون الوارد تذييلها قبل، أو معطوفا عليه كما في قوله سبحانه {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين}(السجدة : 7).

كما يرد الإخبار عنه مستقلا به وفي سياق القسم، ولعله أهم أساليب اهتمام القرآن بحسن خلق الإنسان كما في أوائل سورة التين، إذ وقع القسم المؤكد بما يشير إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر. فالتين أي جبل التين وهو الجودي الذي بني عليه مسجد نوح عليه السلام فيه إيماء إلى أول شريعة لرسول، والزيتون يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون وفيه إيماء إلى شريعة إبراهيم فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الأثر، وقد يكون إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه السلام بناء على القول بأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى. وأما طور سنين فهو الجبل المعروف بطور سينا وفيه إيماء إلى شريعة التوراة، والبلد الأمين إيماء إلى مهبط شريعة القرآن. فكل هذه البقع المباركة التي هي مهوى تلك الشرائع المباركات إنما وقع القسم بها، وأعْظِم به من قسم، لأجل تأكيد هذه القضية التي هي من أعظم القضايا المركزية في القرآن ألا وهي قضية حسن خلق الإنسان {لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم} قال الشيخ ابن عاشور رحمه الله : >وفي ابتداء السورة بالقسم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعة استهلال لغرض السورة وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي خلقه على الفطرة السليمة مدركا لأدلة وجود الخالق ووحدانيته… وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم<(5).

وعليه فإن حسن التقويم متجه أصالة إلى جمال التسوية النفسية التي فطر عليها عقل الإنسان ووجدانه، ليتيسر له سلوك سبيل الاستقامة في التفكير والتعمير واكتساب محاسن الطباع والمنافع،  إذ على قدر تحري ذلك يكون مقدار حفظه لصبغ الله الفطري الذي صبغ إدراكه العقلي والنفسي بتكييف الإيمان في فطرته وتلوين القلب بعزائم تزكيته {صبغة الله ومن احسن من الله صبغة}(البقرة : 138).

وأما الحسن الصوري الوارد في نحو قوله سبحانه على سبيل الامتنان {وصوركم فأحسن صوركم}(التغابن : 3). فأمر مقصود بالتبع، إذ لا أثر له مباشر في الإصلاح >إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم<(رواه مسلم). ولعله معتبر من جهة ما قد يحدث في النفس بعد تذوقها ما أسبغ سبحانه على صورتها من عظيم التصميم والتنسيق وجميل الرواء والبهاء، ما تفوق به محاسن أحاسن الحيوان، من الإحساس بواجب أداء الشكر وترتيل الحمد، بما يعكس حفظ جمال جوارح الصورة عما يجليها عن سننها الفطري ومقصدها العبادي.

——-

1- ينظر جمالية الدين للدكتور فريد الأنصاري – عافاه الله- من ص 25 إلى ص 36  الطبعة الأولى 1427 n 2006 منشورات ألوان مغربية.

2- مفردات الراغب مادة فكر.

3- معنى مستفاد من بعض حلقات برنامج  +أسماء الله الحسنى}(لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه الله على قناة الرسالة الرائدة. وينظر بلاغ الرسالة القرآنية للدكتور فريد الانصاري n عافاه الله-  من ص 48 إلى ص 60 الطبعة الأولى.

4- نقلا عن أصول النظام الاجتماعي في الاسلام للشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله ص 69 الشركة التونسية للتوزيع.

5- ينظر تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر ابن عاشور ج 30 من ص 420 إلى 424 دار سحنون للنشر والتوزيع تونس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>