في الـمعمار الإسلامي


يعد المعمار الإسلامي بجمالياته التكميلية : الزخارف والخطوط، واحداً من أشد المعطيات الإبداعية قدرة في التعبير عن الذات (الإسلامية)، في التعامل الإيماني مع الكتل والمساحات، وفي منظورها الرؤيوي للكون والحياة والإنسان.

ويكاد يكون المسجد الجامع البؤرة التي يتكاثف في تكويناتها هذا المنظور، أو المرآة التي تنعكس على صفحتها بجلاء همومه ومطامحه وشوقه الملح لتجاوز المباشر، والعادي، واليومي، والقريب، باتجاه غير المباشر، والمدهش، والدائم، والبعيد.

إنه -أي المسجد الجامع- بحجارته التي تكاد تصلّي، كما يقول (غارودي).. بتقبّل تكوينه المعماري للمفردات الإسلامية التي صاغت الطبائع، ودخلت البيوت والنفوس، كما يقول (مارسيه).. بتجريداته الزخرفية والخطية التي تجاوز التعبير الفوتوغرافي عن العالم، والتي تقترب بنا شيئاً فشيئاً مما سمّاه معمار القرن العشرين (لوكور بوازييه) : “استبدال العادي والفاسد والتافه بالمباهج الأساسية”، وتحويل المنظور والمباشر إلى “رؤى تجريدية خارقة”.. بمنائره التي ترتفع إلى السماء، لحظة بلحظة، شاهدة على أنه (لا إله إلا الله).. بقبابه المتكوّرة، المنطوية على الخشوع والتسليم.

هذا البنيان الذي أريد له أن ينهض في كل حيّ أو مدينة على مدى عالم الإسلام.. في بخارى وسمرقند ودلهي وأصفهان وبغداد وإسطنبول ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة وغرناطة وإشبيلية.. إنما يعكس بكل الصدق الفنّي المطلوب، رؤية إيمانية متميزة للوجود والمصير، ويعبّر -في الوقت نفسه- عن قدرة الفنان المسلم على الاستجابة لتحدّيات الكتلة والمنظور، وتجاوز التعبير المباشر عن الأشياء، واختراق ضغوط الوثنيات التي أسرت ولا تزال عشرات الممارسات الفنية في الحضارات الأخرى.. والتحقّق بنقلة نوعية باتجاه التجريد الذي هو أكثر ديمومة، وأعمق معنى، وأشد ارتباطاً بالمغزى التحريري الذي جاء هذا الدين لكي يمنحه الإنسان أو يعينه عليه.

إنه الفن الذي يرفض التقليد.. يرفض  التعامل السهل مع العالم، ويتأبّى على المباشر والمحدود.. وهو بهذا إنما يعكس واحدة من أكثر صيغ التعبير الجمالي عن الذات المسلمة أصالة وتفرداً وإبداعا..

ولعلّنا كمسلمين، بمعايشتنا هذا المعمار لحظة بلحظة، فقدنا الدهشة والانبهار، وفرضنا على أنفسنا حصار الإلف والعادة اللتين تقتلان في الوجدان هزّة التعامل الجمالي مع الأشياء.. من ثم، فقد لا نستغرب إذا وجدنا عدداً من الغربيين، من خارج دائرة الحياة الإسلامية، يقدّمون كشوفاً من القيم الفنية الباهرة، وهم يعاينون ـ ربما لأول مرة ـ معطيات ذلك المعمار.

إنهم يعبّرون عن انبهارهم بعبارات قد تكون محدودة الكلمات، ولكنها تحمل تقويماً لهذا الفن يضعه في مكانه الحق بين الفنون : إبداعاً متميزاً متفردا، يعبّر عن هموم أمة أراد لها الله أن تمضي إلى العالم لكي تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

إن (روم لاندو) مثلاً، في (الإسلام والعرب) يحدثنا عن ” المنطق والجمال اللذين ينبثقان عادة كلما حاول أمرؤ مخلص أن يترجم روح دينه وحضارته الأشد عمقاً وايغالاً في الباطن، وينقلها إلى صورتها المنظورة”. وهكذا يصبح هذا الفن “رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه”.

وروجيه غارودي في (وعود الإسلام) يستنتج كيف ينقلنا النور الذي يعكسه هذا الفن “إلى عالم آخر، فيما وراء هذا العالم، مشعّ في هذا العالم” ويرى كيف “أن الجامع، الذي تكاد حجارته نفسها تصلي، إنما هو مركز إشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية، هو نقطة الالتقاء لجميع فنونها”.

و(أوليغ غرابار) يعرّف المعمار الإسلامي بأنه ” نقل بصري لرؤية العقيدة الإسلامية الكونية “.. و(جاك ريسلر) في (الحضارة العربية) يرى ويسمع إيقاع العقيدة في المعمار، وهو الإيقاع نفسه الذي يرى ويسمع في كل ركن وحنية من أركان الحياة الإسلامية الحقة وحنياتها : “في المسجد ينبض قلب الإسلام.. وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حياً أنه بحضرة الله. الحق أنه لا شيء في المسجد إلاّ البساطة والجمال والتجانس”.

و(فيليب حتي) في (الإسلام منهج حياة) يلحظ كيف ” كان نمط البناء يتأثر بعناصر محلية من غير أن تتبدل خطته الأساسية.. وظل معبّراً عن الإسلام تعبيراً عظيماً.. “.

أما (بروفنسال) فإنه يلمح في كتابه (حضارة العرب في الأندلس) كيف كانت آثار (الموحدّين) كلها ضخمة توحي بالجلال، شيدت على نحو رائع ومتناسق.. “أنها عارية من الزخرف، تتأفف من عبارات المديح لأي أمير، ولا تقبل إلاّ برقم مناسبة تمتد عرضانياً على شكل أفاريز قرآنية”. إنه “الطابع الخاص” كما يقول (غوستاف لوبون) في (حضارة العرب ، طبعه المسلمون “على فن العمارة وسائر الفنون، والذي يبدو في آثارهم أوّل وهلة “.

أفلا يتحتّم علينا، بعد هذا كله، أن نعيد تقويمنا لهذا الفن المتميز بمفرداته كافة، وأن نستعيد، قبل هذا، قدرتنا على التعامل الجمالي الذي يندهش وينبهر ويهتز وهو يرى الحجارة تصلّي، والقباب تخشع وتسلّم، والخطوط والزخارف تملأ الفراغ بالرموز والدلالات.. والمآذن تشهد، وهي تتطاول متفردة في الفضاء، أنه ليس ثمة إلاّ الله؟!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>