مركز الدراسات الحضارية – القاهرة -
بعد مرور مئة عام على مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر والشام 1798، وتحديدا عام 1897، وفي مدينة بال (بازل) بسويسرا؛ انعقد المؤتمر الصهيوني الأول برئاسة تيودور هرتزل، وكانت خيوط المؤامرة تحاك ضد الأمة العربية والإسلامية في غفلة منها، حيث تم خلال هذا المؤتمر تحديد معالم وقسمات الحركة الصهيونية وأهدافها.
وفي الوقت ذاته تم خلال المؤتمر أيضا توثيق عرى التحالف بين المخططات اليهودية والمخططات الاستعمارية ، وهو التحالف الذي أسفر عن تزاوج غير شرعي ،وتمخض عن ولادة دولة (إسرائيل) واحتضانها بالرعاية والمساندة والتأييد حتى الآن ، حيث اقتنعت الدول الاستعمارية آنذاك بضرورة إجراء تغييرات على أسلوبها الاستعماري القائم على الغزو الحربي الذي ثبت فشله ، إلى أسلوب آخر غير تقليدي. ومن ثم فقد تبنى المشاركون في المؤتمر وجهة نظر (ثيودور هرتزل) وخطته التي كانت تقوم على زرع دولة قوية وغريبة في المنطقة العربية ـ وهي (إسرائيل) ـ حتى تصبح عضوا من أعضاء الأسرة الإقليمية، وفي الوقت ذاته تكون أداة في يد الاستعمار ، وقد خطط هرتزل لكي تقوم هذه الدولة على جثة الشعب الفلسطيني وذلك حينما نادى بإقامة “دولة لشعب بلا أرض في أرض بلا شعب”(1)
ومن ثم فقد التقى الفكر اليهودي مع الفكر الاستعماري ، وقد وجد الغرب ضالته في هذا الاقتراح لأنه كان يهدف إلى إقامة دولة تكون بمثابة قاعدة سياسية واقتصادية يحقق بها مصالحه السياسية والاقتصادية، وتعمل هذه الدولة على إبقاء حالة التخلف في العالم العربي ، وتحول دون قيام دولة عربية أو إسلامية موحدة ، وتفتيت العالم العربي والإسلامي إلى وحدات صغيرة فضلا عن خلق صور وأشكال عديدة من التناقضات والخلافات البينية داخل علاقات هذه الدول.
ومنذ ذلك الحين تكاتفت القوى الاستعمارية فيما بينها ـ لأسباب ودوافع مختلفة ـ لكي تقام دولة (إسرائيل) على أنقاض الشعب الفلسطيني .
بريطانيا : تمكين التأسيس وتأييد التوسع
يضرب الموقف البريطاني من الصراع العربي ـ الإسرائيلي جذوره إلى أوائل القرن الحالي ، حيث دعا حزب المحافظين البريطاني إلى عقد مؤتمر في لندن بدأ أعماله في عام 1905 ،ورفع المؤتمر في 1907 م توصية عاجلة في ختام أعماله إلى رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت “كامبل بنرمان” نصت على “أن إقامة حاجز بشري وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة ، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هوالتنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة”(2)
من وعد بلفور إلى إعلان دولة (إسرائيل)
نتيجة لدخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور وهزيمتها على أيدي القوات المتحالفة ، دخلت القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي بالاشتراك مع القوات العربية بقيادة الملك فيصل الأول ؛ مدينة القدس في 11 كانون الأول / ديسمبر 1917، وبقيت المنطقة المعروفة باسم فلسطين خاضعة للإدارة العسكرية البريطانية، وقبل تسليم القدس للجنرال اللنبي من قبل المتصرف العثماني بها عام 1917 أصدر وزير الخارجية البريطانية المستر بلفور في 2 نوفمبر تشرين الثاني 1917بياناً سياسياً من قبل الحكومة البريطانية عرف بوعد بلفور إلى اللورد روتشيلد ممثل الاتحاد الصهيوني جاء فيه، “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف”. ولم تكن فلسطين وقت إصدار هذا الوعد تخضع للإشراف البريطاني.
وقبل وقت طويل من فرض الانتداب بمقتضى المادة 22 من عهد عصبة الأمم المتحدة في 10 كانون الثاني / يناير 1920 ، اتفقت أقوى دول الحلفاء على تخصيص الانتداب على فلسطين إلى صاحب الجلالة البريطانية، وسرى مفعول الانتداب البريطاني على فلسطين وأيده مجلس عصبة الأمم في أيلول / سبتمبر 1922 ، وقد كان وعد بلفور نصرا سياسيا مبيناً للحركة الصهيونية التي كانت تتركز في المملكة المتحدة “بريطانيا” بصفة رئيسة في هذا الوقت.
ونتيجة لإصرار بريطانيا على وعد بلفور وتبنيها سياسات لدعم ومساندة اليهود على تملك الأراضي الفلسطينية ؛ حدثت ثورة فلسطين الكبرى (عام 1936 إلى 1939) ، حيث خاف الفلاحون العرب من أن يصبحوا بلا أرض ، وكانت من أسباب الثورة أيضاً زيادة الهجرة اليهودية الواسعة إلى فلسطين التي وصلت عام 1935 إلى 62 ألف مهاجر رسمي، وبدء تكون قوات مسلحة يهودية بمساعدة بريطانيا، واستشهاد الشيخ عز الدين القسام عقب ثورته المسلحة في تشرين الثاني / نوفمبر 1935(3). وقد جاءت ثورة عام 1936 بلا تخطيط مسبق ولكن الشعب وقياداته هما اللذان أشعلا الحرب.
وقد أدت هذه الثورة إلـــى قيام الحكومة البريطانية بتشكيل “لجنة بيل” (Peel Commission) التي قدمت تقريرها عام 1937 موصية بتقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية على أن تبقى القدس وحيفا تحت إشراف دولة الانتداب، لكن هذا الاقتراح رفض من جانب الطائفتين اليهودية والعربية.
وفي أيار / مايو 1939 أصدرت بريطانيا كتاب مكدونالد الأبيض أعلنت فيه أن “تعهداتها لليهود والمصالح القومية البريطانية لا تسوّغ استمرار الحكومة في تطوير الوطن القومي اليهودي إلى أبعد من النقطة التي بلغها، حيث لم يعد ممكناً تطويره إلا باستعمال القوة التي لا يمكن تبريرها” ، وأصر الكتاب الأبيض على أنه ليس من سياسة الحكومة البريطانية إنشاء دولة يهودية ، وأنه لا أساس لمطالبة العرب بدولة عربية مستقلة، وأوصى الكتاب ـ مع شيء من التناقض ـ بدولة فلسطينية مستقلة يتقاسم فيها اليهود والعرب السلطة “بحيث تؤمن المصالح الجوهرية لكل منهم ” ، وتقييد أية هجرة يهودية جديدة إلى فلسطين.
لقد كان الوضع السابق هو القائم حين نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول / سبتمبر 1939، حيث حالت الحرب دون أية تطورات سياسية جديدة من قبل الحكومة البريطانية ،وهدأت أعمال العنف في الفترة من 1939 حتى 1945 بسبب الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة لخروج بريطانيا محطمة من الحرب العالمية الثانية ، ومسارعة الولايات المتحدة ومعها الصهيونية العالمية لبناء الاقتصاد البريطاني من خلال مشروع مارشال ، ونتيجة للخسائر العسكرية الجسيمة والنفقات الكبيرة التي تكبدتها بريطانيا للمحافظة على النظام طبقاً لشروط الانتداب؛ فقد قررت في نيسان / أبريل 1947 أن تحيل تحديد مستقبل الانتداب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد اتجهت بريطانيا لنقل النزاع بين العرب واليهود إلى الأمم المتحدة بعد أن حقق الانتداب في رأيهم هدفه الأكبر وهو إنشاء وطن قومي لليهود، وهكذا تملصت بريطانيا بعد حكم دام 30 عاما من مسؤوليتها إزاء العرب ، إذ كان ينبغي عليها ـ كما جاء في صك الانتداب ـ عدم الإضرار بمصالح السكان الأصليين السياسية والاقتصادية والمدنية (4).
وفي أيار / مايو 1947 ألفت الجمعية العامة لجنة خاصة بفلسطين سميت “يونسكو ب” للتحقيق في وضع فلسطين والتوصية بحلول له ، وأدرجت توصية هذه اللجنة في قرار الجمعية العامة رقم 181 في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 الذي أوصى الدولة المنتدبة وجميع أعضاء الأمم المتحدة بتبني وتنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولة عربية مستقلة ودولة يهودية مستقلة بحدود منصوص عليها بعد انتهاء الانتداب، وقضى القرار باستثناء القدس وضواحيها من أراضي الدولتين المقترحتين ، بحيث يصبح القدس كياناً منفصلا تديره الأمم المتحدة ، وأن ترتبط هاتان الدولتان المقترحتان باتحاد اقتصادي ، وأن تُضم الدولتان معاً إلى عضوية الأمم المتحدة(5).
وبموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة مُنح المستوطنون الإسرائيليون 55% من أراضي فلسطين في الوقت الذي لم يكن اليهود يمتلكون فيه أكثر من 11% . وقد جاء قرار التقسيم صدمة مفجعة لكل عربي ومسلم في فلسطين ، وقضى نهائيا على كل أمل بإمكان قيام حكومة فلسطينية بالطرق السلمية ، وعمت المظاهرات جميع أقطار الوطن العربي ، وهبت الشعوب من كل مكان تطالب حكوماتها بالقضاء على قرار التقسيم ، ومنادية بالزحف المسلح لإنقاذ فلسطين من العصابات اليهودية(6).
وفي 14 أيار / مايو 1948 انسحبت حكومة الانتداب والقوات المسلحة البريطانية من فلسطين ، وانتهى الانتداب عند منتصف الليل ،وفي هذا اليوم نفسه أعلن المجلس الوطني للدولة اليهودية قيام الدولة الإسرائيلية في تل أبيب.
———
1- انظر أمين هويدي، كيف يفكر زعماء الصهيونية، دار المعارف، القاهرة، 1975، ص 15.
2- انظر وثائق فلسطينية، الجزء الأول، الهيئة العامة للاستعلامات، وزارة الإرشاد القومي، القاهرة، آب/أغسطس، 1969.
3- انظر أحمد سعيد نوفل وآخرين، القضية الفلسطينية في أربعين عاماً، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1989، ص 22.
4- انظر د. صلاح العقاد، قضية فلسطين (المرحلة الحرجة 1945- 1956) معهد الدراسات العرية والعالمية، جامعة الدول العربية، 1986، ص 36- 37.
5- انظر الأمير الحسن بن طلال، حق الفلسطينيين في تقرير المصير، مرجع سابق ص 35.
6- انظر شفيق الرشيدات، فلسطين : تاريخاً وعبرة ومصيرا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1981، ص 163- 165.
> قضايا دولية عدد 261