أصْدَقُ الأنباء عَن يوْم كَشْف الغطاء


أبو زيد محمد الطوسي

قيل : العجز عن الإدراك إدْراك، وما لا ندركه لا ينبغي الخوض فيه، والمؤمن بالله يدرك بعقله وكليته مالا يدركه غيره، فيصدق بكل ما جاء به الله ورسوله محمد  من الغيْبيات. ومن ذلك عالَم القيامة، إنه اليوم الآخر الذي لا مفر منه إنه يوم عظيم، عظيم شأنه، مديد زمانه، قاهر سلطانه، قريب أوانه، هذا اليوم ينتظرنا جميعاً، والسعيد من سعد فيه، والشاطر فينا من أحسن العمل استعداداً له، قبل حلول الأجل، فالموت آت والموعد قريب، قال تعالى : {مــن كان يــرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم}(العنكبوت : 5) وفي الحديث : >الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ<(رواه الترمذي وأحمد والحاكم بسند صحيح) فالكيِّس هو الذي يتبصر في الأمور ويتفكر في عواقبها، وهو الذي يحاسب نفسه فيقهرها ويلزمها حدود الله تعالى ويعمل للآخرة، أما العاجز فهو الأحمق الذي لم يفكر في عواقب الأمور، ويترك نفسه في هواها ويتمنى على الله أن يعفو عنه. إن الحديث عن الآخرة حديث عظيم، تقشعر لهوله الجلود، وتخشع له القلوب. القلوبُ التي صَفَت فآمنت وصدّقت بكلمات ربها، وعلمت علم اليقين أن لقاء الله حتْمِيٌّ وأن الزاد قليلٌ، يقول ابن الجوزي في كتابه “صيد الخاطر” ص 321 : ألم تر إلى أرباب الصنائع لو دخلوا إلى دار معمورة، رأيت البناء ينظر إلى الحائط، والنجار ينظر إلى الباب والنوافذ، والحائك ينظر إلى النسيج، فذلك المؤمن اليقظان : إذا رأى ظلمة ذكر القبر، وإذا شكا ألماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى نياماً ذكر الموت في القبور، وإن رأى لذةً ذكر الجنة… بهذا الإيمان يحيا المؤمن، ويعلم أن للموت سكرات، وبعد الموت أحوال وأهوالٌ وسفرٌ بعيدٌ، وأول خطوة منه بيت قفر “وأيمُ الله” ليس كالبيوت وإننا لفي غفلة عنه، وتصور معي أُخَيّ حكايتنا اليومية وصوراً من حياتنا التي تبتدئ من فراغ وتنتهي للأسف إلى فراغ، يقوم الواحد منا صباحاً ويلهث وراء مالذ وطاب من المآكل والمشارب والتي تفرز بين الحين والحين، ويتسابق إلى حيث تريد نفسه الأمارة بالسوء، فيملأها خبثاً حتى تكلّ وتتعبَ، فإذا جاء الليل استلقى على الأرض وغط في نومه فيتثاقل ويحلم كَليَالِيهِ السابقة بغدٍ جميل يرتعُ فيه ويلعب كما تسول له أهواؤه. وإذا به يستيقظ فيجد نفسه وسط حفرة، لا تتعدى الشبرين، حفرة لم يرها من قبل وكان في غفلة عنها، يجد نفسه في ظلمة ما كان يحسب لها حساباً وهو الذي تضاء له الشموع والأنوار، يجد نفسه في وحشة حسبها خيالاً أو من رابع المستحيلات، فقد كان في أهله مسروراً، وظن أن لن يحورَ، ظن أن الموت بعيد المنال، وأن قبره في داره مع أهله، لقد كان من الحالمين بالخلود، أفاق من الحلم ووجد نفسه أمام الحقيقة، حقيقة أن من خُلق من التراب فإلى التراب يصير، كان في الدنيا كما ظنّ مستوراً، وإذا بأعماله تفضح أمام رؤوس الخلائق، وجدها مُدَوَّنةً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لقد كشف الله عنه الغطاء فأبصر عملَه بنفسه فندم وتمنى الرجوع، ولكن هيهات ثم هيهات.. فالبدار البدار.. وتوبةً إلى الله قبل فوات الأوانِ..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>