هامش على إعادة تشكيل العقل المسلم


إن الدعوة إلى إعادة تشكيل العقل المسلم ليست أماني ولا أحلاماً، وإنما دعوة للتحقّق بمنظومة من الضوابط والشروط التي توفّر مناخاً صالحاً للفعل الحضاري.

ما الذي فعله الإسلام بصدد تهيئة أو تخطيط مناخ ملائم للفاعلية العقلية، وبالتالي جعل العرب القادمين من أعماق البداوة قادرين على أن يكونوا أمة متحضرة مضت عبر قرون طويلة تمسك بزمام النشاط المعرفي والحضاري، متسّنمة قيادة العالم؟ ما الذي جعلها تنطفيء فيما بعد وتفقد القدرة على التعامل مع هذه الشروط بما أراده لها الله عز وجل ورسوله  فتجعل من عقولها أداة للتعامل الجاد مع الكتلة الكونية ومع العالم، وتستعيد -بالتالي- قدرتها على قيادة هذا العالم، أو أن تجد لها مكاناً فيه قبالة تحديات الحضارة الغربية التي طالما قال عنها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي أنها تكاد تلتهم بقايا الحضارات المتآكلة التي تلفظ أنفاسها بما فيها حضارة الإسلام التي إن لم يتداركها المسلمون أنفسهم لقيت المصير المحتوم.

إن الإشارة إلى العقل والفاعلية العقلية والشروط التي تضع العقل في دائرة القدرة على الإنجاز، لا تعني أبداً إهمالاً للطاقات البشرية الأخرى في التعامل مع العالم، كالروح والوجدان وصيغ التربية والإعداد.

إننا نختلف عن الغربيين الذين وقعوا -على تألّقهم الفكري- في خطيئة “إما هذا أو ذاك” : إما العقل وإما الروح. فنحن لا نعاني من هذه المشكلة في نسيج حياتنا الإسلامية. ففي مقابل ” إما هذا أو ذاك ” لدينار عبارة ” هذا وذاك “، العقل والروح معاً. إلاّ أن ثمة أولويات فرضت علينا في أعقاب الصدمة الاستعمارية قبل قرنين من الزمن والتي قادت ـ في الأعم الأغلب ـ إلى موقفين خاطئين : موقف الانتحار الحضاري، أي الاندماج النهائي في كيان الحضارة الغالبة والضياع فيها، يقابله موقف هروبي، انعزالي يرفض كلية التعامل مع تلك الحضارة.. يرفض حتى السيارة والثلاجة والمدرسة.. باعتبار أن هذه الحضارة حضارة كافرة يتحتم أن نكون حذرين من مدّ اليد إليها ومصافحتها.

ولقد حقّق هذان الموقفان هزائم متلاحقة قادت في إحدى جوانبها إلى ذوبان بقايا حضارتنا، ومثقفينا الذين يمثلون واجهتها، في كيان الحضارة الغربية الغالبة، وقادت في جوانب أخرى إلى خسارة فرصة ممتازة لتوظيف المعطيات الإيجابية الفاعلة في تلك الحضارة لخدمة وتعزيز الوجود الإسلامي في هذا العالم.

فنحن إذن بحاجة إلى أن نجد طريقاً وسطاً لا يميل باتجاه الانتماء والاندغام الثقافي في الغير، ولا باتجاه العزلة عنه والهروب منه، لاسيما وأن مساحات ليست بالهيّنة من معطياته تمثل إرثاً مشتركاً من حقّنا أن نأخذ منه ما ينسجم وثوابتنا العقدية والسلوكية..

وهكذا فإن عبارة “إعادة تشكيل العقل” تعني بالدرجة الأولى البحث عن طريقة عمل ملائمة في لحظاتنا الراهنة تعيد للمسلمين قدرتهم على الفاعلية والعطاء، وتمكنهم من مجابهة تحديات الحضارة الغربية، وتقول للناس : إن العقل المسلم ليس بأقل من العقل الغربي قدرة على الفاعلية بسبب من أن كتاب الله تعالى وسنة رسوله  وضعتا جملة من الضوابط والشروط أعطت مساحة واسعة للنشاط العقلي كمرتكز للمعرفة والتحضّر، وكأنها تريد أن تقول لنا : قوموا ثانية فاقدحوا زناد عقولكم لكي تعودوا مرة أخرى إلى العالم وإلى التاريخ بعد أن نفيتم أنفسكم منهما بسبب جملة عوامل يقف تغييب العقل على رأسها ولا ريب. وليس ثمة وراء إشعال فتيل العقل المسلم أي طريق يمكننا من أن ننهض ثانية لنجابه الموقف بصيغة ندّية، وأن نكون أكفاء التحديات الثقافية الغربية الغالبة.

قد يقول قائلون ممن تعتور الشبهات والهزيمة النفسية أذهانهم : إن المنهج القرآني والنبوي كان صالحاً لبيئة وزمان محدّدين، فما لنا نلتزم به في مطلع قرن جديد ونحن في وضع لا نحسد عليه إزاء حضارة تملك الكثير؟

والجواب هو أن هذا المنهج، الذي يستمد خطوطه العريضة ومرتكزاته وثوابته من أوامر وتعاليم قادمة من الله سبحانه الذي يعلم غيب السماوات والأرض ويعلم السرّ وأخفى، ويحيط علماً بكل صغيرة وكبيرة في ساحات الكون والعالم، هذا المنهج يمكن أن يشكل برنامج عمل في كل زمن ومكان، وهو منهج مرن قادر على أن يدخل في كل عصر لكي يفعل فعله.

إننا نتذكر هنا مقولة المفكر الفرنسي المعروف (روجيه كارودي) الذي انتمى إلى الإسلام، من أن شهادة (لا إله إلاّ الله) هذا الإثبات الأساسي الذي هو مرتكز العقيدة الإسلامية، قادرة على أن تزحزح الجبال عن مواضعها.. إن نحن عرفنا كيف نتعامل مع قوانين الحركة التاريخية التي انطوى عليها كتاب الله وسنّة رسوله   والتي يمكن أن تعيدنا ثانية إلى العالم، فاعلين قديرين على العطاء والمساهمة في المصير..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>