الخليفة هارون الرشيد وفتح هرقلة في بلاد الروم


د. عبد الله بلحاج

كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت قد ملّكت امرأة لأنه لم يكن بقي في أهل زمانها من أهل بيتها -بيت المملكة- غيرها، وكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد أول خلافته بالتعظيم والتبجيل وتدر عليه الهدايا، حتى بلغ ابنٌ لها فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد، فخافت على مُلك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته، فاحتالت لابنها فسملت عينيه، فبطل منه الملك وعاد إليها. فاستنكر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله فخرج عليها نقفور -وكان كاتبها- فأعانوه وعضدوه، وقام بأمر الملك وضبط أمر الروم. فلما قوي على أمره وتمكن من ملكه نقض الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الهالك لهم، فكتب إلى الرشيد:

“من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب، أما بعد فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك، ووضعت نفسها موضع السوقة، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبَلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.”

فلما أن قرأ الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يمكن أحداً أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه خوفاً، واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه برأيه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب :

“بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، أما بعد فقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، وجوابك عندي ما تراه عياناً لا ما تسمعه”.

ثم شخص من يومه ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدةً ورأياً فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت. وشرع الرشيد يتوغل في بلاد الروم حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية، فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار، فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم اتبعه الناس. فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلاً عن أصحابه.

ومما يروى في هذه الغزوة، أن الرشيد لما حصر أهل هرقلة وغمهم وألح بالمجانيق والسهام والعرادات، فتح الباب فاستشرف المسلمون لذلك فإذا برجل من أهلها كأكمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح فنادى: قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إلي منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلاً فلم يجبه أحد فدخل وأغلق باب الحصن. وكان الرشيد نائماً فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه، فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه وتأسف لفوته. فقيل له: إن امتناع الناس منه سيغويه ويطغيه وأحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل ما طلب. فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له. ثم إذا هو بالباب قد فتح وخرج طالباً للمبارزة، وذلك في يوم شديد الحر، وجعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن حازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه. فعزم على إخراج بعضهم فضجت المطوعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم، فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم، فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين قوادك مشهورون بالبأس والنجدة وعلو الصوت ومداوسة الحروب، ومتى خرج واحدٌ منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذلك، وإن قتله العلج كانت وضيعة على العسكر عجيبة وثلمة لا تسد، ونحن عامة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلاً فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين قد ظفر بأعزهم على يد رجل من العامة ومن أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله ولا يؤثر، وإن قتل الرجل فإنما استشهد رجلٌ ولم يؤثر ذهابه في العسكر ولم يثلمه وخرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي الله ما شاء.

قال الرشيد: قد استصوبت رأيكم هذا. فاختاروا رجلاً منهم يعرف بابن الجزري وكان معروفاً في الثغر بالبأس والنجدة فقال الرشيد: أتخرج قال: نعم وأستعين الله فقال: أعطوه فرساً ورمحاً وسيفاً وترساً فقال: يا أمير المؤمنين: أنا بفرسي أوثق، ورمحي بيدي أشد، ولكني قد قبلت السيف والترس. فلبس سلاحه، واستدناه الرشيد فودعه، واستتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون رجلاً من المطوعة. فلما انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدّهم واحداً واحداً: إنما كان الشرط عشرين وقد زدتم رجلاً ولكن لابأس. فنادوه: ليس يخرج إليك منا إلا رجلٌ واحد. فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله الرومي – وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن حتى ظنوا أنه لم يبق في الحصن أحدٌ إلا أشرف – فقال الرومي: أتصدقني عما أستخبرك؟ قال: نعم. فقال: أنت بالله ابن الجزري؟ قال: اللهم نعم. فكفر له ثم أخذا في شأنهما فاطعنا حتى طال الأمر بينهما، وكاد الفرَسان أن يقوما وليس يخدش واحدٌ منهما صاحبه، ثم تحاجزا بشيء فزج كل واحد منهما برمحه وأصلت سيفه، فتجالدا ملياً واشتد الحر عليهما وتبلد الفرَسان، وجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الرومي. وكان ترسه حديداً فيسمع لذلك صوت منكر، ويضربه الرومي ضرب معذر ، لأن ترس ابن الجزري كان درقة، فكان العلج يخاف أن يعض بالسيف فيعطب. فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه، انهزم ابن الجزري، فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون اختيالاً وتطاولاً (والعَطْعَطَةُ: تَتابُعُ الأَصوات واختلافُها في الحرب). وإنما كانت هزيمته حيلةً منه. فأتبعه العلج، وتمكن منه ابن الجزري، فرماه بوهق (والوهق: الحبل المُغاز يُرْمى فيه أُنشوطة فتؤخذ فيه الدابة والإنسان)، فوقع في عنقه وما أخطأه، وركض فاستل عن فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حياً حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون أعلى تكبير وانخذل المشركون وبادروا الباب يغلقونه واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار في المجانيق وارموها فليس عند القوم دفع. ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة وأضرموا فيها النار ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذ الحجارة وقد تصدع، فتهافتت، فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين ومستقبلين ومكبرين.

> تاريخ الطبري – الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

> د. عبد الله بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>