أخيراً : أرجنكون في القفص التركي!!!


ذ. فهمي هويدي
تسجل تركيا هذه الأيام صفحة جديدة في تاريخها، بعدما  أمسكت بأهم خيوط الحكومة الخفية، التي ظلت تتحكم في مصير البلد طوال نصف القرن الأخير على الأقل.

هو زلزال سياسي بكل المعايير، تلمس أصداءه فور وصولك إلى اسطنبول، التي تجري على أرضها محاكمة العصر، إذ لا يزال كثيرون غير مصدقين أن كابوس الحكومة الخفية الممثلة في منظمة أرجنكون بصدد الزوال، وهي التي ظلت تتربص بالحياة السياسية منذ منتصف القرن الماضي، محركة عدداً من الأحداث الكبيرة أو الغامضة، التي ظلت تهز البلاد وتصدم الرأي العام بين الحين والآخر، من الانقلابات العسكرية والاغتيالات والتصفيات، مروراً بزرع المتفجرات وإطلاق المظاهرات.

وصلت إلى اسطنبول مع بدء المحاكمة الكبرى التي جرت بضاحية سيلفيري بالقسم الأوروبي من اسطنبول، ومن الواضح أن الحكومة حرصت على أن تطلع الرأي العالم أولاً بأول على تفاصيل القضية، حتى يعرف الجميع حقيقة ما كان يجري في تر كيا خلال العقود الخمسة السابقة، فنشرت على موقع بالإنترنت أسماء كل المتهمين (84 حتى الآن وقد ألقي القبض على 25 آخرين).

كما نشرت لائحة الادعاء المقدمة ضدهم التي وردت في 2500 صفحة، وقيل إن هناك 5 ملايين وثيقة تؤيد الادعاءات والجرائم المنسوبة إليهم.

أكثر ما أثار الانتباه في قائمة المتهمين أن على ر أسهم ثلاثة من جنرالات الجيش المتقاعدين، ورئيس جامعة اسطنبول السابق وأحد كبار الصحفيين. إضافة إلى أعداد من رجال الجيش والشرطة، والقوميين المتطرفين المنخرطين في منظمة حماية الأفكار الأتاتوركية. وأي متابع للمحاكمة التركية يعرف أن القبض على الجنرالات خط أحمر، باعتبار أن الأصل في النظام السائد أن يقبض الجنرالات على البلد وعلى المواطنين. وكان لابد أن تحدث معجزة خارقة حتى يحدث  العكس.

وحدهم المتابعون للحالة التركية فضلا عن عموم الأتراك بطبيعة الحال الذين يدركون دلالة إلقاء القبض على الجنرالات ومحاكمتهم، ذلك أن الجيش هناك محاط بهالة من القداسة، وجنرالاته يعتبرون أنفسهم ورثة أتاتورك وحماة العلمانية والأوصياء على الجمهورية. لكن دولة الجيش لم تستمر وسلطانهم تراجع بمضي الوقت، خصوصا بعدما اشترط الاتحاد الأوروبي على تركيا أن تقلص دور الجيش في الحياة السياسية، حتى أصبحت الأغلبية في مجلس الأمن القومي للسياسيين المدنيين، وحين غلت يد العسكر عن القرار السياسي، صار المجتمع أكثر جرأة في التعامل معهم.

تجلت تلك الجرأة حين أصدر رئيس الأركان الحالي بياناً هاجم فيه بشدة الصحف التي انتقدت إهمال الجيش في الدفاع عن أحد المراكز الحدودية في جنوب شرقي البلاد، كان قد تعرض لهجوم من قبل حزب العمال الكردستاني في بداية الشهر الحالي، وحينذاك رد عليه رئيس تحرير صحيفة “طرف” أحمد الطاق بمقال عنيف كان عنوانه من أنت أيها الجنرال حتى تهددنا؟ كان المقال جريئاً في مفرداته وفي لغته، فلم يسبق أن خوطب الرجل بصفته جنرالاً، إذ كان يشار إليه عادة باعتبار الباشا (القائد) أو رئيس الأركان، كما لم يسبق لأحد أن سأله من أنت، ولا بماذا تهددنا بل إن الكاتب سخر منه حين سأله عما إذا كان سيوجه طائراته النفاثة أف 16 لقصف مقر جريدة طرف؟ في الوقت ذاته فإن الصحف انتقدت بشدة قائد القوات البرية لأنه مشغول بلعب الجولف أثناء مراسم دفن أحد الجنود الذي قتلته غارة حزب العمال الكردستاني على المركز الحدودي.

كنت قد سمعت بمنظمة (أرجنكون) قبل أحد عشر عاماً، حيث حدثني عنها أحد الخبراء المتخصصن في ملفها، وقد طلب مني حينئذ ألا أذكر اسمه، ونشرت في 21 مايو 1997 مقالاً كان عنوانه الحكومة الخفية في تركيا، ركز على نفوذ الجيش في الخريطة السياسية، باعتباره الحليف الرئيسي للمنظمة، قيل لي إن كلمة  “ارجنكون” لها رنينها الخاص في الذاكرة التركية، إذ تقول الأسطورة إن الصينيين حين هاجموا القبائل التركية أثناء وجودها في وسط آسيا، موطنها الأصلي، فإنهم سحقوهم وقضوا عليهم، بحيث لم يبق من الجنس ا لتركي إلا عدد قليل من الناس، احتموا بواد عميق باسم أرجنكون وهناك ظلوا مختفين ومتحصنين سنين عدداً،  تكاثروا خلالها حتى ضاق بهم المكان، ولم يعرفوا كيف يخرجون منه، حتى ظهر في حياتهم الذئب الأغبر الذي دلهم على طريق الخروج، ومن ثم أتيح لهم أن ينفتحوا على العالم ويقيموا دولتهم الكبرى. إذ أصبح الذئب الأغبر رمزاً عن القوميين الأتراك فإن كلمة “أرجنكون” أصبحت رمزاً للحفاظ على الهوية وبقاء الجنس، إذ لولاه لاندثر الأتراك ولم يعد لهم وجود.

في مقال الحكومة الخفية الذي نشر لي قبل أحد عشر عاماً استعرت عنوانا رئيسياً نشرته صحيفة (يني شفق) آنذاك تساءلت فيه : من صاحب القرار في تركيا؟ ذلك أن رئيس الوزراء آنذاك كان (نجم الدين أربكان) زعيم حزب الرفاه الإسلامي، لكن رئاسة الأركان نازعته سلطته وظلت تمارس ضغوطها عليه حتى اضطرته للاستقالة في نهاية المطاف.

تحدثت في المقال عن أنني حاولت أن أتحرى حقائق ذلك العالم الخفي الذي يتحكم في الحياة السياسية التركية. ونقلت عن بعض الباحثين الأتراك الذين لقيتهم قولهم لي : لا تجهد نفسك كثيرا في محاولة التعرف على الحقيقة، لأنها لا تستعصي على المراقب القادم من الخارج فحسب، وإنما تستعصي على الأتراك أنفسهم الذين يعرفون أن الخفي منها والمجهول أكثر من المعلوم.

منذ صعود القوى ذات الخلفية الإسلامية إلى مواقع متقدمة في الحياة السياسية التركية استنفر العلمانيون المتطرفون قواهم وأصبح شغلهم الشاغل هو كيفية قطع الطريق عليهم وإفشال تجربتهم، باعتبارهم يمثلون تهديداً مباشراً للعلمانية والتراث الكمالي. وأصبحت هذه المهمة أحد أهداف منظمة أرجنكون، التي تتعدد الأقوال في منشئها، فمن قائل أنها امتداد لجماعة الاتحاد والترقي التي خلعت السلطان عبد الحميد وقضت على الخلافة الإسلامية، وقائل إنها كانت ذراعاً لحلف الناتو الذي انضمت إليه تركيا في بداية الخمسينيات، وأنها كانت ضمن المنظمات التي شكلتها المخابرات المركزية في أوروبا لمكافحة الشيوعيين في مرحلة الحرب الباردة، لكن الذي لا يختلف عليه أحد أن أصابعها كانت هناك في أغلب القلائل والاضطرابات التي شهدتها تركيا. وأنها انتشرت في مختلف مفاصل الدولة حتى قدر أحد الخبراء أعضاءها بنحو 40 ألف شخص.

ثمة حادث وقع في شهر نوفمبر من عام 1996 يسلط الضوء على مدى قوة وانتشار تلك المجموعة الخطيرة، ذلك أن سيارة مرسيدس سوداء كانت تسير مسرعة على أحد طرق غرب تركيا، فخرجت عليها سيارة شحن كبيرة صدمتها وقتلت ثلاثة من ركابها، أحدهم كان مدير الأمن السابق لمدينة اسطنبول، والثاني أحد زعماء المافيا الخطرين والمطلوبين محليا ودولياً، والثالثة ملكة جمال سابقة لتركيا كانت عشيقة الثاني. أما الرابع الذي جرح فقط فقد كان شيخ عشيرة كردياً يتمتع بالحصانة البرلمانية، في التحقيق تبين أن المجموعة كانت قادمة من أزمير، عقب اجتماع عقدته مع وزير الداخلية في الحكومة، وأن السيارة كانت تحمل سلاحا، وحيث قدمت الاستخبارات تسجيلاتها التي تتبعت بها بعض ركاب السيارة، تبين أن السيدة تانسو شيللر نائبة الوزراء في الحكومة كانت على اتصال مع واحد منهم، هي وزوجها الذي لا يقل أهمية عن ذلك أن القضية تمت لفلفتها، حيث اختفت أحكام مخففة لحق الذين اتهموا فيها وأفلتت إحدى خلايا منظمة أرجنكون من العدالة.

وكان أحد الأسباب التي أدت إلى ذلك أن الحكومة كانت ضعيفة في مواجهة الجيش (رئيس الأركان وقتذاك احتج ورفض مساءلة مدير الدرك، معتبراً أن ذلك من اختصاص الجيش وحده).

هذه المرة وقعت المصادفة في ظل وضع اختلفت فيه موازين القوة في تركيا. فقد دأبت بعض الأبواق الإعلامية على اتهام الحكومة بأنها تسعى لتطبيق الشريعة في البلاد، وكان ذلك مبرراً لتنظيم بعض مظاهرات الاحتجاج باسم الدفاع عن العلمانية. في هذه الأجواء ألقيت قنبلتان على فناء صحيفة الجمهورية المتطرفة (مدير تحريرها متهم في القضية)، للإيحاء بأن الإسلاميين يريدون تخويفها. وبعد ذلك قتل أحد المحامين قاضيا في المحكمة العليا، وقال القاتل في التحقيق : إنه أقدم على فعلته لأن الرجل من معارضي السماح للمحجبات بالدراسة في الجامعة، وبطبيعة الحال فإن الأبواق العلمانية استشهدت بما جرى، وراحت تحذر من مغبة السياسة التي تتبعها الحكومة.

الحادثان وقعا في السنة الماضية التي كانت أجهزة الأمن تراقب خلالها شقة سكنية في ضاحية العمرانية باسطنبول، وحين اقتحمت الشقة وجدت فيها مخزناً للأسلحة وعدة وثائق بالغة الأهمية. إذ اكتشفت أن بها قنابل من نفس الطراز الذي ألقي على صحيفة الجمهورية، وعثرت على صورة لقاتل القاضي مع أحد الجنرالات المتقاعدين، وصورة أخرى لقائد الشرطة العسكرية السابق، الذي يعد أحد أهم خمسة قيادات عسكرية في البلاد، وصورة لجنرال ثالث مع مؤسس جمعية الدفاع عن الأفكار الأتاتوركية وكانت تلك الوثائق هي الخيوط الأولى التي تتبعتها أجهزة ا لأمن والتحقيق التي كشفت عن حلقات أخرى في التنظيم الجهنمي، وأشارت إلى علاقة لأرجنكون بحزب العمال الكردستاني الانفصالي الداخل في صراع مع حكومة أنقرة.

وهناك شكوك يرددها البعض عن علاقة لعبد الله أوجلان بالتنظيم (حماه كان مسؤولا كبيراً في الاستخبارات) الذي يكتشف فيه جديد كل يوم لا أحد يعرف بالضبط حجم الجزء الغاطس منه.

أحد الخبراء قال لي إنهم لا يستبعدون أن يرد التنظيم بتوجيه ضربة من أي نوع للحكومة التي دخلت معهم في مواجهة مكشوفة لأول مرة في التاريخ التركي المعاصر. وقد تأتي الضربة من حركة مفاجئة داخل الجيش، ولا يستبعد أن يتعرض رئيس الوزراء أردوغان للاغتيال، كما لا يستبعد أن يلقي رئيس الجمهورية عبد الله جول المصير ذاته، بحيث يتكرر معه ما جرى مع الرئيس الأسبق توركوت أوزال، الذي تتواتر الروايات عن أن تنظيم أرجنكون قام بتسميمه عام 1993، لكن الأهم في الأمر أن أرجنكون أصبحت أخيراً في قفص الاتهام، وأن المحاكمة بدأت منذ أكثر من أسبوع وقد تستمر لسنة أو سنتين.

> مجلة البلاغ ع 2008/11/2

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>