الموت السياسي معناه أن يُصْبح الإنسانُ المُمجّد، ذو المكانة العظيمة التي يحتلها، والزعامة المُهَيْمِنَة -في غفلة من الزمن وغَفْوَةٍ من الشعوب- أن يُصْبح كل ذلك بعْد صَدْمة تاريخية عقابية مفضوحاً مُعرَّى من تِلك الألقاب والهالات التي كانت تنهال عليه، لا كَلِمة تُسْمَعُ له، ولا هَيْبَة تُضمَرُ له في النفوس فيمُوتُ غمّاً وكمداً وعُزلةً وحسرةً بعْدَ أن مات سياسيّاً.
ونفس الموت السياسي الذي يُصاب به الأفراد تصاب به الشعوب والقيادات والأمم والهيآت والأحزاب، فكُلُّ الشعوب والقيادات والأحزاب والأمم إذا كان لها أهدافٌ ساميةٌٌ، ومبادئ شريفة، تدافع عنها لخدمة الإنسانية وخِدْمة الصالح العام بدون اعتبار للجنس أو اللون أو العرق أو العصبية، وكان لها قادة وزعماء يُحْسنون تجسيم هذه المبادئ، ويعرفون كيف يحْشُدون الأفرادَ والشعوب من خلْفِهم لخدمة تلك المبادئ مهما كانت التضحيات… فكل الشعوب والأمم والأحزاب إذا كانت بهذه المثابة من سُمُوِّ الأهداف وعُلُوّ الهِمَّة كانت شعوباً حَيَّةً، وكان زعماؤها وهيآتُها ومؤسساتُها تنبض بكل معاني الحياة، ومعاني العزة، ومعاني النُّبْل والشرف، وأصبح كُل الناس يحترمُونها ويهابونها ويخشَوْن بأسها، فإذا ما تخلَّتْ عن أهدافها ورسالتها وأصبحت تعيش لتأكل وتشربَ وتتمتعَ بالشهوات الرخيصة كما يتمتع الحيوان ماتَتْ، وإن بقيَتْ تأكل وتشرب وتمشى وتتحرك كالأشباح.
وهذا بالضبط هو ما وقع للجامعة العربية التي وُلِدَت ميتَةً من أولِ مرّة لأنّها وُلِدَتْ ولادةً قيصريةً بدون رسالة على يد الاستعمار البريطاني، تفادِياً من ولادة الجامعة الإسلامية التي كان يراها خطراً عليه.
ومنذ ولادتها وهي لا تستطيع أن تُحرّك ساكناً إلا بإذْن الاستعمار القديم والجديد المتوغِّلِ في عروق قادتها وأنظمتها ومؤسساتها، ولم تصبح سائرة في ركْب الاستعمار وسياسته فقط، بل أصبَحَت مشاركة له بالأموال والجنود لحَرْب إخوانهم في العروبة والدين معا، أو في الدين والملة، سواء في العراق، أو أفغانستان، أو الصومال، أو الفلبين، وغير ذلك من المآسي التي جرَّت على العرب والمسلمين الخراب والدّمار.
مرةً واحِدة وقفت الجامعة وِقفة شبه رجولية، كان ذلك في سنة 1966 سنة النكبة التي نُكِّبَتْها الأمَّة على يد قادةٍ مغرورين لا يعرفون لله حقا، ولا للإسلام رسالة، حيْث خرَجُوا من الخرطوم بالسودان بقرار فيه لاَءَاتٌ ثلاثة، لا للاعتراف بالعدو، ولا للمفاوضة معه، ولا لربط العلاقات معه.
والمُضحك المُبْكي أن الدّولة التي جَمعت العرب لمناصرتها والوقوف معها، وتبَنِّي اللاّءات الثلاثة معها هي أولُ دولة فاوضت عدُوَّها وعدُوّ العروبة وعدُوّ الإسلام، واعترفت بها، وربطت العلاقة معها، وهي التي أصبحتْ أول دولة خارج صَفِّ العروبة، وبذلك طُعنت الجامعة العربية في الصميم، وأصبحت هيكلا بدون روح، وشَبَحاً بدون حقيقة، ومؤسسة بدون رسالة، ومنظمة بدون احترام.
أفَيُسْتغْربُ بعد هذا أن يجتمع وزراء الخارجية العرب ويخْرجون بدون اتخاذ أي قرار؟! وأيُسْتغْرب بعد هذا أن يتفرّجوا على تقتيل إخوانهم الفلسطينيين نساءً وأطفالاً ورجالا؟! وأن يتفرجوا على تهديم كل مؤسسات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية؟! سواء كانت محلية أم دولية؟!
لماذا كل هذا الهبوط؟!
لأن الجامعة العربية وُلِدَتْ بدون رسالة، فهي من أول مرة وُلدت معزولة عن حياتها وروحها ونورها وهداها، فروحُ العروبة الإسلام، وعِزُّها هو الإسلام، ونورها هو الإسلام، وهداها هو الإسلام، فإذا خرجَتْ عن هذه الرسالة تاهَتْ وتلفَتْ وأصبحتْ ألعوبةً في يد البشر المتألِّه يحركُها كيف يشاء.
ولقد شرف الله العروبة ومعها الإنسانية المومنة بقوله تعالى : {لقَدْ أنْزَلْنا إِلَيْكُم كِتاباً فِيه ذِكْرُكُم أفلاً تعْقِلُون}(الأنبياء : 10) أي لا ذِكْر للعَرَب، ولا مكانة لهم بين الأمم بدون رسالة القرآن!! ففقدان الرسالة هو الموت.
ولقد حذَّرَنا الرسول من هذا الموت السياسي المُخْزي والمُذِلّ فقال : >يُوشَك أن تَدَاعى عليْكُم الأُمَمُ كما تَدَاعى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل : ومِن قِلّة نحْنُ يومَئِذ يا رسول الله؟! قال : بَلْ أنْتُم يومَئِذٍ كَثِير، ولكِنَّكُم غُثَاءٌ كغُثَاءِ السّيْل، وليَنْزِعَنّ اللّه منْ صُدُور عَدُوِّكم المَهَابَة مِنْكم، ولَيَقْذِفَنّ اللّه في قُلُوبِكُم الوَهْن، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهْن؟! قال : حُبُّ الدُّنْيا وكَرَاهِيَّةُ المَوْت<(رواه أبو داود).
فعناصر الموت السياسي تتجلى في النقط التالية :
1- الكثرة الغثائية : والكثرة الغثائية تكونت من التعليم الغثائي، والإعلام الغثائي، والاهتمام الغثائي، والتجمعات الغثائية المعتنية بالبطن والفرج وجمع الأموال بالحق والباطل، أما الاهتمام بالرسالة الاسلامية والدّعوة الإسلامية فغائبة تماما على كل صعيد. فلا هدف لها تجتمع عليه، ولا رسالة حضارية لها بين الأمم تدفعها دفعاً للتضحية في سبيلها.
2- عزل المجتمعات عن دين ربها : بالإهمال للدين نهائيا، وبالطعن فيه أحياناً، بل وباعتباره أحيانا أخرى سبةً وإرهاباً وتأخراً وتخلُّفا، فمن أهْمَلَ دينه أهملَ ربّه، ومن أهمَلَ ربّه نسيَهُ الله تعالى وأنساه نفْسَه {ولا تكونوا كالذِين نَسُوا اللّه فأنْسَاهُمْ أنْفُسَهُم أُولئِك هُمُ الفَاسِقُون}(الحشر : 19). وهل هناك حياة لمن أنساه الله نفسه؟!
3- فقْدانُ الهيْبَة : لأن الهيبة التي جعلها الله عز وجل للمسلمين كانت بسبب دينهم، وليست بسبب عروبتهم أو جنسيتهم، فدينُهم هو الحياة، فكان الناس يهابونهم لأنهم يُحيُونهم.
4- فقدان الرسالة : لأن رسالة العرَب كانت هي الإسلام، فعليه كانوا يموتون، ولأجله كانوا يعيشون، وللخلود في الجنان والرضوان كانوا يسْعَوْن، إذ كانوا يعيشون في الدنيا بقلوب تتعشق الآخرة، أما عندما أصبح الغثائيون يعيشون للدنيا فعدوّهم متفوق عليهم فيها، ولذلك فهم لا يستطيعون أن يرفُضُوا له طلباً، أو يقفُوا في وجهه، لأنهم عندما كانوا يحيَوْن للإسلام، وبالإسْلام، كان الله عز وجل معتمَدَهم وناصِرَهم وجامعهم على حبه، ومُلْق الرُّعب في قلوب أعدائهم، فعلى ماذا يعتمدون بعد التخلي عن الرسالة؟! على الشيطان؟! الشيطان في صف أعدائهم يعمل ليخذلكم ويُشَتّت شمْلكم؟!
إلا أن الأمل في الله عز وجل عظيم في أن يخرج من بحور الدماء المراقة في غزة، ومن أرْتال الشهداء الأبرار فئة تنصُر دين الله تعالى، وتعمل لتمكينه في الأرض رغم كيد الكائدين، وخذلان المتخاذلين قال : >لا تَزَالُ طائِفَةٌ من أمّتِي على الحَقِّ ظَاهِرِين لا يَضُرُّهم من يخْذُلُهُم حتّى يأْتِيَ أمْرُ اللّه<(رواه الترمذي وأبو داود ومسلم).
وقال تعالى : {يُرِيدُون أن يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بأفواههم ويابَى الله إلا أن يُتِمّ نُورَه ولوْ كَرِه الكافِرُون هو الذِي أرْسَلَ رسُولَه بالهُدَى ودِين الحَقِّ ليُظْهِرَهُ علَى الدِّين كُلِّه ولوْ كَرِه المُشْرِكُون}(التوبة : 33).
أمّا المحنطون سياسيا فقد ماتوا يوم رضُوا لأنفسهم أن يعيشوا بدون رسالة الإسلام؟! وسوف يأتي الوقت المناسب لزلزلة كيانهم كما زلزلُوا كيان المُسلمين {ولا تَحسِبن الله غَافِلاً عمّا يعملُ الظّالِمُون}(ابراهيم : 44).