غـــزة: القلعة الأخيرة


شاء الله أن نعيش نكبات فلسطين ابتداء من نكبة 1948 إلى اليوم وقد عشت النكبة العربية عيانا وعلى الأرض عندما هاجرت إلى الشرق العربي للدراسة وعايشت وخبرت الانقلابات السورية والمصرية والسودانية واللبنانية وآخرها الانقلاب العراقي صيف 1958… وكانت ورقة فلسطين هي الأبرز في الخطاب الثوري الذي تبين أنه كان لافتة للدعاية وتسويغ قهر الشعوب العربية واضطهاد الأحرار وتوطين التخلف وإفساد الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية والتمكين للاستعمار وحماية ” إسرائيل ” من أن تُمَسَّ بأذى …

وما تزال البلاد العربية تعاني معاناة شديدة من آثار الانقلابات، وكان جمال عبد الناصر يعلن في خطبه الرنانة أنه سيلقي بإسرائيل في البحر فإذا بالشعب المصري لم يحصد إلا البؤس والقهر والهجرة بالملايين إلى العمل في الخارج وما زال نزف الهجرة مستمرا وما تزال مصر العظيمة تتراجع إلى الوراء مع أن لها من العلماء والخبراء ما يقل نظيره في بعض دول أوربا. لقد سقطت جميع الأقنعة واستسلم ” الثوريون ” الفلسطينيون وتلاشت شعارات ” ثورة حتى النصر ” وغيرها واغتيل أو أبْعِدََ أصحاب الاتجاه الإسلامي من مؤسسي ” فتح ” ولم يبق في الساحة إلا أصحاب المشاريع الضخمة والحسابات في البنوك والمتسابقون على تحقيق السراب للشعب الفلسطيني ولاء لأمريكا والصهيونية وحفاظا على ثرواتهم ومصالحهم الدنيوية الزائلة.

إن تأسيس ما يُسَمّى بدولة إسرائيل قد قررته إنجلترا قيدومة الاستعمار في مؤتمر كامبل سنة 1907 فكانت بإقامتها في قلب البلاد العربية لضمان السيطرة على المنطقة كلها ولتمزيق أي مشروع للوحدة العربية وللحيلولة دون التحرر من الهيمنة الاستعمارية.

ولم يكن وعد بلفور 1917 إلا التزاما إنجليزيا لما قررته قبل عشر سنوات… وبعد تمزيق تركيا واقتطاع البلاد العربية من حكمها بالتعاون مع بعض المغفلين والطامعين والخائنين العرب الذين كانوا في صف الاستعمار ولقد كان نصيب إنجلترا من الإرث التركي: العراق وفلسطين وشرقي الأردن، وكان من نصيب فرنسا سوريا التي اقتطعت منها أجزاء كثيرة وأضافتها على جبل لبنان وأنشأت دولة لبنان الكبير وجعلت على رأسه رئيسا نصرانيا مارونيا ورئيس الحكومة سنيا ورئيس البرلمان شيعيا ووزير الدفاع درزيا كما جعلت قيادة الجيش نصرانية مارونية مع أن الأغلبية بلبنان إسلامية…

وعندما عشت في لبنان 1952- 1954 وصيف 1955، 1956، 1957 شاهدت المؤامرات على فلسطين عبر هذا البلد من خلال ما كان يسمى ” النقطة الرابعة ” الأمريكية وشراء أمريكا للذمم وكانت الحدود اللبنانية والفلسطينية الواقعة تحت السيطرة اليهودية مفتوحة يُهرب إليها ما تحتاجه إسرائيل من مواد غذائية وغيرها ويتولى ذلك حتى بعض البرلمانيين.

وعشت قصة الكفاح العربي والفلسطيني لإسرائيل… والحقيقة أن الأمر لم يكن يتعدى الخطب والقصائد والشعارات وقد غطى شعار ” العروبة ” على الإسلام ولا سيما في العراق وسوريا ولبنان وحتى فلسطين وكان الشعار الإسلامي يحمله فقط الإخوان المسلمون والعلماء … ومن المعلوم أن كتائب الإخوان في الشرق أبلت البلاء الحسن في حرب 1948 لذلك تقرر التخلص من المرشد الإمام حسن البنا سنة 1949 والإجهاز على الإخوان بكل الوسائل وكانت الانقلابات العسكرية تخدم هذا الهدف؛ فقد اغتيل حسن البنا إبان حكم فاروق ولكن في عهد النظام العسكري قتل كثير من الإخوان المسلمين على رأسهم القاضي في المجلس الأعلى: عبد القادر عودة وسيد قطب وقائد الفدائيين لمحاربة الإنجليز: الشيخ فرغلي، أما السجناء بين التأبيد وعدة سنوات فلا يقعون تحت الحصر… وقد هجر كثير من رجال الإخوان وشبابهم إلى الخارج…

وفي سنة 1964فيما أظن تأسست منظمة تحرير فلسطين ( فتح ) وحلت محل الدكتور أحمد الشقيري الذي زحزح مفتي فلسطين: الأمين الحسيني عن القيادة.

وكان جل الأعضاء المكونين لفتح من الحركة الإسلامية مثل الدكتور الأستاذ شاكر قنديل شبير أستاذ بكلية الطب بالأردن رحمه الله الذي استقال لما انحرفت فتح نحو الاتجاه اليساري العلماني، وخالد الحسن وهاني الحسن وغيرهم ممن اغتيلوا أو زحزحوا ليحل محلهم ” المتفاهمون ” مع أمريكا وإسرائيل، ومنذ نحو عشرين سنة تأسست حركة حماس على يد الشيخ أحمد ياسين على أساس تحرير فلسطين كلها بالجهاد وعاش عددٌ من حماس ودرس بالكويت في أحضان جمعية الإصلاح ذات التوجه الإسلامي…

وقد قررت حماس ألاّ تحارب إسرائيل ولا تجاهد إلا داخل فلسطين ولن تطلق رصاصة واحدة على غير العدو الإسرائيلي بل ترتفع عن التهريج السياسي واتهام الآخرين ومنهم حكام العرب بأي تهمة.

وقعت منظمة التحرير بزعامة فتح في فخ كامب ديفيد وأوسلو وما تبع ذلك حتى أعلنت عن سقوط قلعة فتح عندما رضيت بالمفاوضات المتواصلة التي كانت تدور في متاهات مظلمة في حين كانت إسرائيل تبني المستوطنات وتشيد الجُدُر وتعتقل الآلاف رجالا ونساء وأطفالا وتهيئ لتحويل القدس إلى معبد يهود يسمونه ” هيكل سليمان ” وهكذا سقطت قلعة فتح ولم يبق لإسرائيل من عوائق بعد القضاء على فتح واغتيال قائدها بالسم بواسطة حاشية القائد الذي ودع أصحابه ومودعيه بإشارة أصبعيه: الوسطى والسبابة الذي كان يفعلها مقترنة بجملته الاسمية الدائمة ثورة حتى النصر. أما خلفاؤه فيرفعون الأصبع الوسطى قائلين : ثروة حتى الهزيمة.

إذن لم تبق إلا قلعة حماس التي تقرر في إسرائيل وأمريكا تقويضها وتخريبها والقضاء عليها قضاء مبرما وشاملا بأسلحة الدمار الشامل وبالخيانة.

ولقد قرأنا بل وسمعنا تصريح بعض كبار السياسة المصريين إذ قال: نحن لا نسمح أو نقبل بإقامة إمارة إسلامية بجانبنا ” وذلك ما تقرره الدول الاستعمارية، إذ لا تسمح بإقامة نظام إسلامي بأي حال من الأحوال، وقد رأينا الإجهاز على ثورة إسلامية باليمن سنة 1948 وعلى تجربة الجزائر الديمقراطية وعلى حكومة المحاكم الإسلامية بالصومال وعلى نظام طالبان الذي رفض الرضوخ للنفوذ الأمريكي، لذلك فالهجوم على غزة تقرر عندما رأت أمريكا ومن يدور في فلكها نجاح حماس في حكمها لغزة وفي حسن إدارتها ونزاهتها وإقامتها للعدل واستقامة حكمها ونزاهته ورفضه للمساومات وتقوى أعضائها وقيام قادتها بإمامة الجمعة والأعياد وزهدهم في الحياة الدنيا وحسن قدوتهم واسترخاصهم أرواحهم في سبيل الله وبذلك نالوا ولاء وإعجابا حتى من بعض خصومهم الشرفاء. أما القلاع الأخرى فقد تهاوت وكان بعضها من كارتون وبعضها دون أساس أما فتح فلم يبق منها سوى شباب غزة الذين أعلنوا أنهم مع قلعة حماس الصامدة التي قلبت المعادلات وجعلت الصهيونية في الحضيض وقد فقدت جميع رصيدها الذي كونته منذ 60 سنة.

إن حماس الإسلامية قلعة حصينة أمام الأطماع الإسرائيلية فإن انهارت هذه القلعة -لا قدر الله- فإن الأنظمة العربية تصبح في خطر لأن أطماع إسرائيل ومن ورائها الاستعمار الأمريكي والغربي هو الاستيلاء على منابع النفط والمضائق والتأثير في توجيه السياسة للدول العربية ولا يُستبعد أن تطالب إسرائيل العرب بتعويضات كثيرة وربما ببعض المدن والأماكن حتى ولو كانت بالمدينة المنورة … أيها المسلمون دافعوا عن هذه القلعة فإن بقاءها قوية حماية لكم ودرء الخطر عن بلادكم وإياكم أن تخربوا بلادكم بالخنوع لأمريكا والخوف من جبروتها {وَمَنْ يَتق الله يجعلْ له مخرجاً ويرزقْه من حيث لا يحْتسِب}(الطلاق : 8) {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن اللّه لا يهدي القومَ الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن ياتي بالفتح أو أمْرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}(المائدة : 51- 52).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>