العيد في الإسلام شعيرة من شعائر الدين المعظمة تتضمن أسراراً وحكماً لا تعرفها باقي الأمم ولا تتذوق حلاوتها ولا لذة التنعم بها.
فالعيد شكر لله على تمام العبادة والانتهاء منها، وذلك أن للمسلمين عيدان لا ثالث لهما، ربط سبحانه كلا منهما بعبادة من العبادات الكبرى، فالأول يأتي بعد الصيام ليفرح المسلم بفطره على أمل أن يفرح بصومه إذا لقي ربه، قال : >للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه< وأما العيد الثاني فيأتي بعد عبادة الحج بعد أن يؤدي الحجاج هذه الشعيرة التي تتميز بأنواع من التضحيات، من هجر للديار ومغادرة للأهل والأحباب وتحلل من المناصب والتجارات في هجرة إلى الله عز جاهه، وسلطانه، يقول الدكتور يوسف القرضاوي : >فكأن العيد هنا وهناك في الفطر وفي الأضحى : جائزة أو مكافأة من الله تبارك وتعالى لعباده، كأنه منحة ربانية لهم على ما أدوه من إحسان فريضة الصيام وإحسان فريضة الحج<.
> يأتي العيد ليعلمنا أن نحر الأضاحي وسوق الهدى كأنه هدية إلى الله تعالى يُعبّر المسلم بها عن شكره لله على نعمة الهداية التي هي أثمن نعمة على الإطلاق وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة ورغبة وذلك طلباً لرضى الله عز وجل. وتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الله رب العالمين قال تعالى : {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}(الحج : 35).
والعيد في تجلياته الإنسانية يجمع بين الغني القوي بجاهه وماله وبين الفقير المعدم الضعيف بحاجته وقلة ذات يده، يجتمعون على أمر سماوي يأمر ويرغب في الإحسان بإيتاء الزكاة والتوسعة على الفقراء والمحتاجين، وبذلك ينسى المترفون تعلقهم بالمال وينزلون من أبراجهم العالية ليتذللوا لله العظيم الذي خلقهم وأعطاهم من خزائنه التي لا تنفد. ويتواضعوا لخلق الله حتى يروا أن كل من حولهم إخوانا لهم في الدين وأعوانا لهم على الحق، وبهذا الإحساس الذي يشعرون به في العيد قد يمحون إساءة عُمْرٍ قد خلا على قاعدة -الإسلام يجب ما قبله بالنسبة للكافر- والتوبة تجب ما قبلها بالنسبة للعاصي.
> يحل العيد على المسكين فيجعله يسمو ناسيا متاعب الأيام الماضية فتضعف وتتلاشى عنده كل دواعي الخوف والقنوط والحقد على الغني.
> يأتي العيد ليُريح الناس من هموم كالجبال.
لأنه يفرح الأطفال ويلحّم أواصر القربى حيث يجتمعون متزاورين متحابين متسامحين.
> يأتي العيد ليغذي العقول بحكمه البليغة ومقاصده الرفيعة التي تحفظ على المسلمين وحدتهم وتذكرهم بماضيهم وتاريخ النبوات والرسالات لعلهم يصلحون من أحوالهم ويغيروا ما بأنفسهم عسى الله أن يغير ما بهم.
> يأتي العيد ليلقننا دروساً عملية في التضحية والفداء والإيثار والتعاطف والتعاضد والمحبة.
هكذا غرس الإسلام معاني العيد، فكانت التضحية والفداء، وكان الجود بالمال والنفس حتى أصبحت تسري في وجدان المسلمين صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء، وصارت التضحية جزءاً لا يتجزأ من رغباتهم، لقد تشرب المسلمون هذه المعاني من مدرسة رسول الله ومن دروس القرآن العظيم وآياته التي تحكي قصص الأنبياء والمرسلين الذين تمثلوا أسمى معاني التضحية والفداء فها هو القرآن الكريم يخبرنا عن انتفاضة الخليل إبراهيم على الأصنام والخرافات والظلم فكان أن ضحى بنفسه وبذل روحه من أجل نشر رسالة الإسلام، هذا الحرص جعل أعداء الله ورسله يقدمونه إلى النار ليكون وقوداً لها انتقاماً منه وتنكيلا به.
وبينما يستعد المشركون لإلقاء شيخ المضحين والفدائيين في النار الملتهبة أتاه جبريل عارضا عليه الخدمة والمساعدة فيقول له : يا إبراهيم هل لك من حاجة فيقول الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام : أما إليك فلا، فيقول جبريل : سل ربك، فيجيبه إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي. فإذا بالأمر الإلهي يصدر إلى النار المتوهجة والمتأهبة لالتهام كل ما يقدم إليها بلا شفقة ولا رحمة، قائلا سبحانه : {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}(الأنبياء : 69).
ويستمر أبو المسلمين إبراهيم في تضحياته. فيطلب منه ربه امتحانا له واختباراً لإيمانه، ذبح فلذة كبده والتضحية به ليعلم الناس أن المؤمن هو من يقطع كل العلاقات بغير ربه ولو كان ابنه المحبوب. فكانت الطاعة من الأب وكانت الاستجابة من الابن البار وكان الفضل الكبير من الله لهذه التضحية وكان الجزاء الحسن. قال عز وجل {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم}(الصافات : 103- 107). واقتداء بأبي الأنبياء، الذي سمانا المسلمين سار الحبيب المصطفى على خطى خليل الرحمان إبراهيم فلم يترك نوعا من أنواع الفداء إلا وكان له منه نصيب.
لقد تحمل بنفس راضية كل أنواع الأذى والمقاطعة والرجم بالأحجار ومصادرة الأموال والممتلكات والقذف واللمز والاتهام الكاذب، فتحمل كل ذلك راضيا مضحيا في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته وبذلك يعلم أصحابه التضحية قولا وفعلا وأخلاقا.
يأتي عيد التضحية كل عام تخليداً لهذه المعاني وخصوصاً تضحية الخليل إبراهيم وزوجته وابنهما إسماعيل الذين نذروا مهجهم لله عز وجل واستسلموا لأمر الله العظيم فحققوا كل معاني الكمال الإنساني في الإسلام والإيمان.
يأتي عيد التضحية هذا العام وإخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وفي غيرها من بلاد الإسلام حيث تحالف عليهم الأعداء فقتلوا الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وداسوا البلاد ودمروا الثروات واحتلوا الأوطان ولما هبوا للتضحية والفداء في سبيل استرجاع الحُقوق ورد العدوان اتهموا بالإرهاب ووصفوا بأبشع الأوصاف، ولكن الله تعالى يرد على المجرمين المحتلين للأوطان مدافعاً عن عباده المؤمنين بأنهم {إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} وأذن لهم بالتضحية والفداء من أجل تحرير البلاد والعباد من وطئة الأنجاس فقال سبحانه في سورة الحج : {أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}(39- 40).