عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : >ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام< يعني : أيام العشر، قالوا : يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال : >ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء<(رواه البخاري).
تـقـديــم :
تعيش الأمة الإسلامية على مرور السنة أوقات خير وبركة، ولحظات صفاء وطهر ونقاء، وفترات إشراق ونور وضياء، وتعتبر العشر الأوائل من ذي الحجة إحدى هذه الفترات واللحظات التي شرفها الله تعالى وعظمها وجعلها أياما مباركة عنده، وهي الأيام التي أقسم بها سبحانه في مطلع سورة الفجر، قال تعالى : {والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري هل في ذلك قسم لذي حجر}(الفجر : 1- 5).
شــرح الـمـفـردات :
- مَا مِن أيام : ليس هناك يوم أو أكثر من أيام السنة.
- العمل الصالح : كل عمل يوافق الكتاب والسنة ويبتغي به صاحبُه وجهَ الله إخلاصا له وتقربا إليه، ويشمل جميع العبادات من صلاة وصدقة، وصيام، وذكر، وتكبير، وتهليل، وتسبيح، واستغفار، وقراءة للقرآن، وبر بالوالدين، وصلة للأرحام، وحسن معاشرة وجوار، وإحسان إلى كافة الخلق، وغير ذلك من العبادات والأخلاق والمعاملات.
- رجل خرج بنفسه وماله : رجل جهَّز نفسه وأعدَّ عدَّته وخرج مجاهداً في سبيل الله مصحوبا بما يمكن أن يحتاج إليه من سلاح أو مركب أو غير ذلك من لوازم الجهاد.
- لم يرجع من ذلك بشيء : فَقَدَ نفسه وأخذ العدو ما كان معه من سلاح ومركب وعدة، وبذلك نال الشهادة في الله، فهو من أفضل المجاهدين.
الـمعنى الإجــمالـي :
اغتنام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة في الطاعات والقربات أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجلّ.
المعاني الجزئية :
1- إن رسول الله يخبرنا في هذا الحديث، أنه ليس هناك يوم، أو بعض أيام، في السنة يكون فيها الإقبال على الله تعالى، بمزيد من الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، من طاعات، وعبادات، وأخلاق، ومعاملات، أحبُّ إلى الله تعالى من الأيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة التي شرفها الله عز وجل وعظمها، وجعلها من الأوقات المباركة، التي يكون العمل الصالح فيها أعظم أجراً، وأجزل ثوابا من العمل الصالح في غيرها من أيام السنة.
2- تساءل الصحابة رضوان الله عليهم -وكأنهم يبدون استغرابهم وتعجبهم- إن كان العمل الصالح في هذه الأيام مُقدَّمٌ عند الله حتى على الجهاد في سبيله، فأكّد لهم رسول الله أن كل الأعمال الصالحة كيفما كان نوعها، ومهما صَغر حجمها، وقلَّ قدرُها، مقدّمة عند الله على غيرها من الأعمال الصالحة التي يمكن القيام بها خارج هذه الأيام، مهما بلغ قدرها، وعظم شأنها، حتى ولو كانت جهاداً في سبيل الله.
3- الشهادة في سبيل الله درجة رفيعة، ومنزلة عظيمة، لا يفوقها أي عمل صالح كيفما كان هذا العمل، وأينما كان، ووقتما كان. والشهداء في سبيل الله هم أقرب الناس مكانة من الله وأعلى منزلة عنده.
مـستفـادات وفـوائد :
1- العشر الأوائل من شهر ذي الحجة أيام مباركة، لأنها الأيام التي تؤدى فيها مناسك الحج حيث تتجسد خلال هذه الأيام مظاهر الطاعة والامتثال لله عز وجل في أكمل صورة، وتتمثل فيها مظاهر الإقبال على الله تعالى في أتم حال، ويهرع المؤمنون الصادقون ا لذين ملأ الشوق قلوبهم، وملك عواطفهم، واستولى على مشاعرهم، إلى تلبية نداء الرحمن، وحج بيت الله الحرام، تاركين وراءهم ديارهم وأهاليهم وأولادهم، ومقبلين على ربهم داعين ومكبرين ومُلبين : “لبيك اللهم لبيك…”.
2- عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : >أربع لم يكن يدعُهُنّ رسول الله : صيام عاشوراء، والعشرُ، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتان قبل الغداة<.
3- خير هذه الأيام يوم عرفة الذي قال عنه : >ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهلَ السماء، فيقول : (انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْتاً، غُبْراً، ضَاحين، جاؤوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي)، فلم يُرَ أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة<.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال : >ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجلّ ثم يباهي بهم الملائكة<.
وعن أنس بن مالك ] قال : وقف النبي بعرفات، وقد كادت الشمس أن تثوب، فقال : > يا بلال، أنْصِت لي الناس< فقام بلال، فقال : أنصتوا لرسول الله ، فأنصت الناس فقال : >معشر الناس، أتاني جبريل آنفا، فأقرأني من ربي السلام، وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعرالحرام، وضمن عنهم التبعات<، فقام عمر بن الخطاب ]، فقال : يا رسول الله، هذه لنا خاصة؟ قال : >هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة< فقال عمر ] : “كثر خير الله وطاب”.
وروي عن النبي أنه قال : >ما رُئِي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة<، ومعناه أن إبليس اللعين يرى تنزل الرحمات والبركات على ضيوف الرحمان، ويرى أن الله عز وجل يغفر زلاتهم، ويتجاوزعن عثراتهم، ويمحو سيئاتهم، فلا يرضيه ذلك.
4- إن الله تعالى الذي تنعم على أهل عرفات بالرحمة وتفضل عليهم بالمغفرة، لقادر على أن تعُمّ رحمتُه سائر بقاع الأرض، وأن تشمل مغفرتُه عبادَه في كل مكان.
وإن ربنا هو رب أهل عرفات، وإننا نتَّفِق وإياهم في الهمِّ والرجاء والطمع والشوق، وربنا سبحانه لا يشغله حال أهل عرفات عن حالنا. فلنغتنم هذا اليوم حين يُهله الله علينا بالدعاء والابتهال عساه سبحانه يعزنا بالنصر المبين والفوز العظيم.
5- عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي سئل عن صوم يوم عرفة، فقال : >يكفر السنة الماضية والباقية< فهو يكفر سنتين.
6- جعل الله آخر هذه الأيام عيداً مباركا هو عيد الأضحى، وفيه من المعاني الروحية ما ينبغي استحضاره بكل وعي وإيمان ويقين، وهي المعاني التي نستمدها من قصة سيدنا إبراهيم الذي يعتبر نموذجا عاليا في الطاعة والامتثال، ومثالا كاملا في التضحية والفداء، والرضا بالقضاء والصبر على البلاء، فنال بذلك من رب العزة أحسن الجزاء، قال تعالى : {فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بُنَيّ إنيّ أرى في المنام أنيَ أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تومر ستجدني إني شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين}(الصافات : 10- 11).
7- عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال : >إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلْيُمْسِك عن شعره وأظفاره<(رواه مسلم).
8- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : >ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا<.
9- يوم العيد هو يوم الوفاء والصدق والإخاء، يوم المسرات والمبرات، يوم تواصل وتراحم، وتصافح وتغافر. يوم التلاقي بنفوس صافية، وقلوب سليمة، يوم صلة الأرحام، والسعي في إصلاح ذات البيت، وإكرام اليتيم ومساعدة الفقير والمسكين، وتقديم أنواع البر وصنوف الإحسان.