لا يسْتغْربُ الإنسانُ من ضعف بعض الأمِّيِّىن والبُسطاء -ثقافةً وعلماً وفكراً- عن ادراك الفرْق بين الحُكْم الإسْلاميّ الذي طبِّقَ تاريخيّاً، ويُطالِبُ المسلمون في كُلّ الشعوب المُسلمة بإرجاع تطْبيقه والتّحاكُم إلَيْه… وبيْن الحُكم الطّاغُوتي أو الحُكْم الَّلاهوتِي الذي جاء الإسلام ليَقْضِيَ عليهما ويمْحُوَهما من الوجُود.
ولا يستغْرِب الإنسان من جهل وتجاهُل الكُتّاب المُغْرضِين الذين يتقاضَوْن الأجور الكبيرة عن الطَّعْن في الإسلام، وتشْويه صورته عن عمْدٍ وإصْرار، إما لتوظِيفِهم في هذا الشّأن، وإمّا لإشرابِهِم الحِقْد على الإسلام -ثقافة وتربية ورعاية- فهم يقاتِلُون في جَبْهة الطّعْن في الإسلام والتحريض عليه تنفيساً عن حقْدهم، واقتضاءً لجهْلِهم أو تجَاهُلِهم بدَعْوى أنهم مُفَكِّرون ومُنظِّرون ومُقَعِّدون يسْعَوْن للبُروز في المحافل الإعلامية والفكرية علّهم يحْظَوْن ببعض الجوائز أو الأوْسِمة التقديرية، ناسِين أو متناسين المسْخَ التاريخيّ الذي سيُلاحِقهم أحياءً وأمْواتاً.
فهذان الصِّنفان -الجاهل والحاقد المتجاهل- لا يسْتغْرب الإنسان منهما التحامُل على الحُكم الإسلامي، ونعْتَه بأبْشع النعوت… ولكن الإنسان يتعجَّب حقّاً من الذين يدّعون الانتماء للإسلام حقّاً، ويدّعون التّديُّن بالإسلام عن دليلٍ واقتناع ووراثة صلاحية عميقة، ومع ذلك يكرهون تطبيق شريعة الإسلام، ويكرهون حُكْم الإسلام، وهيْمنة الإسلام، شعائر، وشرائع، وأخلاقا، وسياسة، واقتصاداً، وحرباً وسلماً، وعلاقة مع الآخَرين، وتعامُلاً محليا وإقليميا ودولياً… بدعْوى أنه سيقُودُ إلى التقديس المزعوم -تاريخيّاً- لمن افتروْا على الله الكذب وهم يعلمون.
> فما هُو الحُكْم الطّاغُوتِي؟!
الحُكم الطاغُوتِيُّ -باختصار- هو حُكْم الهوَى المُؤلّه، سواءٌ كان حُكْم شَخْصٍ ادّعَى الرّبوبيّة غَلَبَةً واستبْداداً أو وراثةً بدون شرعيّةٍ أو دَليل واحِد يؤهِّلُه لاقتعَادِ واحتلال مركز الرّبوبيّة، فهو لا يخلُق، ولا يرزق، ولا يحيي ولا يُميتُ، ولا ينزل مطرا، ولا يُنبتُ شجراً، ولا يعْلَمُ غَده ولا غَد من تربَّبَ علَيْهِم، ولا يعلم ما في قلوبهم من حُبٍّ أو كُرْهٍ له، أو نفاقٍ، فهو يسطو على الرّبوبيّة بغيْر حق، ويخضع الناس لعبوديّته فيما يأمُر به وينهى عنْهُ بمُقْتَضَى الغَلَبَة، ومُقْتَضَى الجهْل وانعدام الوعْي لدى الرعيّة الغافلة أو المتغافلة -عجزاً وقصوراً- وهذا النوعُ يُمثلُه فرعَوْنُ -ومن شابهه- الذي قال : {أنا رَبُّكُم الأعْلَى}(النازعات : 24) وقال : {ماعلمت لكُمْ مِن إلَهٍ غَيْرِي؟!}(القصص : 28).
والحكم الطاغوتِيّ أيضا هو حُكْم الهوى المؤلّه الذي تُمثِّلُه جماعةٌ جاهِلةٌ جامِدةٌ، مثل قوم نوح الذين قالوا لنوح {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لتَكُونَنَّ مِن المَرْجُومِين}(الشعراء : 116) ومثل قوم لوط الذي قال له قومه : {لئِنْ لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لتَكُونَنّ من المُخْرجِين}(الشعراء : 167) ومثل قوم شعيب الذي قال له المستكبرون من قومه : {لنُخْرِجَنَّك يا شُعَيْبُ والذِينَ آمَنُوا مَعَك منْ قَرْيَتِنا أو لتَعُودُنّ في مِلّتِنا}(الأعراف : 87) ومثل قريش الذين قالوا لمحمد {هذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ أجَعَلَ الآلِهَةِ إلَهاً واحِداً إنّ هَذَا لشَيْءٌ عُجَابٌ وانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا واصْبِرُوا علَى آلِهَتِكُم إنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بهذاَ فِي المِلَّةِ الآخِرةِ إنْ هَذَا إلا اخْتِلاَقٌ}(ص : 6). هذا عن الحكم الطّاغوتي.
> فما هُوَ الحُكْم اللاّهُوتِيُّ؟!
أما الحكم اللاهوتي فإنه لم يوجَد أصْلاً إلا في فتْرة استثنائية تاريخيّة، وبصفة مفْتراةِ ومُختلقَةٍ في عصور التحكُّم الكَنَسِي -وليس الديني- في الرِّقاب البشريّة بدَعْوَى التّمْثيل والنيابة عن الله في الأرضِ فيما هُوَ مِن اخْتِصَاصِه وحده سبحانه وتعالى كالغُفران، والحِرْمان من الغفران، والكفر والإيمان، والرضا عن عباده أو السّخط عليهم إلى غير ذلك مِمّا لا دخَل لأحَدٍ فيه، سواءٌُ كان بشراً أم جِنّا، ملكاً أو صنماً من الشموس والأقمار، أو الأحجار والأشجار.
فبمقتضى احتكار بِدْعةٍ >رِجال الدِّين< جعل البابواتُ والقساوسة والرّهبانُ لأنفسهم قداسةً خاصة مُزيّفة مكتسبةً من انتمائهم للمسيحيّة المُحرّفة، فأعْطوا لأنفُسِهم ما هُو حقّ خالصٌ لله تعالى، كالتحليل والتحريم، والغُفران والحِرْمان من رحمة الله تعالى وجنته ورضوانه، وبمقتضى هذا حَلَّلُوا ما شاءوا -حسب هواهم- وحرَّمُوا ما شاءوا -حسب هواهم- وإلى هذا يُشير قوله تعالى : {اتّخَذُوا أحْبَارَهُم ورُهْبانَهُم أرْباباً من دُونِ اللّه}(التوبة : 31). بل أكثر من هذا قال فيهم الله تعالى : {يا أيّها الذِين آمَنُوا إن كثِيرا من الأحْبارِ والرُّهْبان ليَاكُلُون أمْوال النّاسِ بالباطِل ويصُدُّون عن سَبِيل الله}(التوبة : 34).
وبمقتضى هذا ابتدعوا لأنفسهم كِتابة صكُوك الغُفْران لِمَن رضوا عنْهُ وملأ أيديهم بما يشْتهُون، وكتابة صُكُوك الحِرمان لمن عارضهم أو أرادَ الثورة عليهم ولو كان أميراً أو ملكاً أو امبراطوراً، وتاريخهم في هذا طويل ومشهور.
فبمقتضى هذا التطاوُل على حق الله تعالى تحكَّمُوا في رقاب الشعوب والحكام، والعامة والخاصة، قروناً وأجيالا، إلى أن ثار في وجوههم المفكرون الأحرارُ -نتيجة الاختلاط بالمسلمين في الأندلس والحروب الصليبية وغيرهما- حتى انتصروا -بعد حروب مريرة- على هذا التألُّه المُزَيَّف، وعلى هذا التدين المزيَّف، وكانت النتيجة : >فَصْلَ الدِّين عن الدَّوْلة< وتأسيس الحكم العلماني الذي لا علاقة له بالدِّين، واخْتُرِعت مقُولَة : >دَعْ مَا لِقَيْصَر لقَيْصَر، ومَا للّهِ للّه< وبذلك سارت حياتُهم ومنْهجُهم في السياسة والدين إلى الآن، وبذلك ثقَّفُوا شبابَنا الوافد عليهم، أو الوافدِين عليه لتعليمه في دياره، حتى تخرّج شبابٌ وأجيالٌ ينادون بالفكرة العلمانيّة، بل ويطبقونها -بتدعيم من سادتهم المستعمرين- على اعتبار أن الدّين الإسلاميّ الصحيح يشابه التديُّن المسيحيّ المُحَرَّف، ولذلك فهو سَبَبُ التخلفِ والظُّلم والظلامية والإرهاب، كما كان الكَنَسيُّون زُعماءَ الظُّلْم والتفتيش والإرهاب والتنقيب والقتل على النوايا والطوايا.
ونتيجةً لجمود المسلمين وعدَم تفتّحِهم على جِدّة الحياة، وجِدّة التطور، وجدّة التاريخ، وجدّّة الابتداع العِلمي، والكشوفات العلمية والجغرافية والفكرية، ونتيجة لتعصبهم المذهبي، والقبلي، والأسري، والعاداتِي. ونظراً لانغماسهم في قَتْل الوقْت في التحْشية على ما ابتدعه الأولون، والتعليق على التحشية بدون الاشتغال بروح القرآن والسنة وتثقيف الأمة بمقاصِد الإسلام وروحه وأنواره، انطلاقاً من الأصول المرتبطة بالحِكم العميقة وانطلاقاً من الدّعوة لهذه الأصول التي هي أصل الرسالة التي طُوِّقَتْ بها الأمّةُ إلى يوم القيامة.
نتيجة لذلك، ولأكثر من ذلك، وجد الاستعمار الفكري فراغاً في أكثر مجالات الحياة لدى المسلمين فملأه بأفكاره وعلمه وثقافته، ومذاهبه السياسية والاجتماعية، فكانت النتيجة ما نرى : دعوة للعلمانية من بني جلدتنا، وحاكمين بالعلمانية من بني جلدتنا، ومحاربين لدعاة الإسلام من بني جلدتنا، ومشوِّهين للإسلام والمسلمين من بني جلدتنا، وما ظَلَمَنا أحدٌ ولكنْ نحْنُ أكْبَرُ الظالمين لأنفسنا، وأكبرُ المجرمين في حَقِّ أنفسنا.
> فما هو الحُكْم الإسْلامِيُّ؟!
الحكمُ الإسلامي ينقسم إلى قسمين اثْنين :
أ- قِسْمٌ لا يحكُمُ فيه إلا الله تعالى، وهو قِسْمُ العقائد من إيمانٍ وكفر، وهُدًى أو ضلال، وغُفْران أو حِرْمان، ورضًى أو سُخط، واستحقاق للعقوبة أو الثواب، لأن ذلك كُلَّهُ مرتبطٌ بالقلب، والقلب لا يطّلِعُ عليْه، ولا يعْرف ما فيه إلا الله تعالى العالم بالسرائر والضمائر. ولذلك كان هذا النوعُ من القِسْم الذي لا إكْراه فيه، ولا سيطرةَ لأحَدٍ عليه، حتى الأنبياءُ والرُّسُل قال تعالى : {فَذَكِّر إنّما أنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِم بمُصيْطِر}(الغاشية : 22)، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم ولَكِنَّ اللّهَ يهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(البقرة : 271).
فمنطقة القلب منطقة حُرّة لا سلطان لأحَدٍ عليها إلا سلطان الله تعالى، فمَن أُكْرِه على الإيمان لمْ يُقْبل منه، ومن أُكْره على الصلاة لم تُقْبل منه، وعَكْسُ ذلك من أُكْرِه على النطق بكلمة الكفر بدون أن يْعتقدَها قلبُه قبِلَ الله إيمانه، ومَنْ أكْره على ترْك الوُضُوءِ أو التيمُّمِ ثم الصلاة بأن كا ن مربوطاً مقيداً في سَجْن من سُجُون الطواغيت فصَلَّى بالإيماء وبإشارة العين بدون وضوء ولا تيمُّمٍ قَبلَ الله مِنْه وأعْطاه ثواب المرابطين الصابرين المحتسبين(1). فأيُّ تقْدِيس في هذا المَجَال لنَبِيٍّ، أو رسُولٍ أو مَلكٍ؟! أو وَلِيٍّ من أوْلِياء اللّهِ الصّالِحِين؟! وأيُّ تيهانٍ يعيشُ فيه العلْمانيّون الذِين يُضْفُون -على الذِين يدْعُون إلى الله تعالى- صِفَة التّقْدِيس التِي تجْعَلُهم فوْقَ المُساءَلة والمُراجعَة؟ ولذَلِك فهم يرْفُضُون الدِّين، ورجالَ الدِّين، مع أنّ المقدّس هو الله وحْده، ولا حقّ لأحَدٍ في القَداسةِ إلا من قدّسَهُ الله زماناً أو مكاناً، أو كِتاباً، أو ملَكا، أو عبْداً صالِحاً رسُولاَ مقْتدَى به، معْصُوما من الخطإِ والزّلَل؟! أمّا العلاقةُ بين العبْد وربِّه فهِي علاقةٌ قلْبيّة خالِصةٌ لا حقّ لأَحَدٍ في التّوسُّطِ فِيها بيْن العبْد وربِّه؟!
ب- قِسمٌ أوْكَل الله عزوجل أمر تطْبيقِه إلى المُومِنين به، وهَذَا القِسْمُ هُوَ قِسْمُ التّشْرِيع الذي على أسَاسِه نَسِيرُ في حيَاتِنا، أفراداً وجماعاتٍ، أُسراً ومُجتمعاتٍ، حكْماً وقضاءً بيْن النّاس، سِلْماً وحرْباً، وصُلحاً ومُعاهَداتٍ، وكسْباً للْمَالِ أو إنفاقاً لَهُ، وبيْعاً وشِراءً، وسِياسةً للرّعيةِ، و توزيعاً للثّرواتِ، وتعامُلاً بيْن المُسْلمين فيماَ بيْنَهُم على أساسِ الأخُوّةِ الإيمانيّة، وتعامُلاً بين المسلمين وغيْرهم على أساس المواطنَة أو العلاقةِ الإنسانية المكرّمة.
وهذا القِسْمُ من طبّقهُ مومناً به، مخلصاً فيه فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فلَهُ أجْرُ واحِدٌ، ومن طبّقَهُ مُخادِعاً متاجراً كان عقابُه عظيماً، وفضحه الله على رؤوس الخلائق.
فمثلا : الله تعالى قال : {وإذاَ قُلْتُم فاعْدِلُوا ولوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(الأنعام : 153)، ولكن الرسول -وهو المعصوم- قال للرجلين المختصِمَيْن لديه : لعلّ بعضَكُم يكون ألْحَنَ بحجّته من بعْض فأقْضِي له على نحو ما أسْمَعُ، فمَنْ قَضيْتُ له بحقِّ أخيه فإنما هو قطعة من نار فلْيأْخُذْها أو ليَدَعْها. معنى هذا أن العدْل التّامّ هو عدْلُ الله عز وجل يوم القيامة، أمّا نحن في الدنيا فنجتهدُ بإخلاص لتحقيق العدَالة على النحو الذي يُرضي الله تعالى، أصَبْنا الإصابَة كُلَّها أم أصَبْنا بعض الإصابة، فأيُّ تقديس في هذا يجعل العلمانيين يتهرّبُون من حُكم الشريعة وفيها هذه السعة وهذه المرونة؟!
ومثلا آخر -أيضا- إن الله تعالى حكم على المنافقين بأنهم في الدّرك الأسفل من النار، ولكننا نحن في الدنيا لمْ نكلَّفْ بالتنقيب عن قلوبهم، أو التجسس على بيوتهم وأسرارهم، بل نعامِلهم في الدنيا على حسب الظاهر، يرِثون ويورثون، ويتزوجون من المسلمين، ويتزوج منهم، وإذا ماتوا يُصَلّى عليهم ويُدفنون في مقابر المسلمين، بينما غيرنا من الشيوعيين سابقا، والليبراليين سابقا ولاحقا، يلاحقون الناس في دورهم ومساجدهم ومتاجرهم ونشاطهم وهواتفهم يكتبون عنهم الملفات تلو الملفات، ويحاسبونهم على أفكارهم ونواياهم، فمن الأحْسَنُ والأوْسَع ُوالأكْرمُ للناس؟! حكمُ الإسلام أم حكم البشر للبشر؟!
فماذا يكرهون من الإسلام؟! يكرهون حِفاظه على عَقْل الإنسان الذي هو جوهر إنسانيته؟! أم حفاظُه على عِرْض الإنسان الذي هو عنوان كيانه وشرفه؟! أم حِفاظه على ماله الذي هو أساس معيشته؟! أيكرهون منه تحريم ما يُفسد العقل والعرض، والتسلط على المال بغير حق؟! أم يكرهون منه العقوبة المشددة لجريمة الحِرَابة، وجريمة السرقة، وجريمة الرشوة، وجريمة الغش التي من شأنها إذا انتشرت أن تجعل المجتمع يعيش في قلق واضطراب يأكل بعضه بعضاً، ويقتل بعضه بعضا، ويُفسِدُ بعضه بعضاَ؟! وصدق الله العظيم إذ يقول : {وجَعَلْنا بعْضَكُم لبَعْضٍ فِتْنةً أتَصْبِرُون؟ وكانَ رَبُّك بَصِيراً}(الفرقان : 20).
——-
1- هذا أحد الأقوال في المسألة، انظر الاستذكار 5/2، و التمهيد 277/19.