من دارْ لْدارْ.. منذ نعومة أظفاري وأنا خادمة في البيوت… قبح الله الفقر… كل ما أذكره تلك اللحظة العصيبة التي انتشلت فيها من أمي، لأعيش بعيداً عنها العمر كله…!
لم أعش طفولتي.. أكره مجرد تذكرها… عانيت الحرمان والظلم بكل أنواعه… كنت كالآلة التي لا يحق لها حتى مجرد الشعور بالإرهاق أو المرض أو التذمر… وكان أبي يتوصل بأجرتي الزهيدة آخر كل شهر..! وكلما شكوته سوء المعاملة والظلم ورغبتي في العيش مع أسرتي… رجاني أن أصبر، لأهمية أجرتي في الإنفاق على إخوتي…!
كبر الإخوة ذكورهم وإناثهم… تعلموا… حققوا مستقبلهم وتزوجوا وأنجبوا… رحل الوالدان إلى دار البقاء… كبرت… ووهن الجسد الذي لم يتأوه قط… أوصدت البيوت التي كانت تفتح لي هاشة باشة… فمن يتحمل عجوزا لن تقدر على خدمة نفسها، فأنّى لها خدمة الآخرين؟!
ظننت خيراً في إخوتي، أنّهم لن ينسوا تضحيتي من أجلهم، ولن يتخلوا عني.. عدت إلى قريتي… جرحوني بألسنة حداد.. إني معرة وذل لهم أحط من قدرهم، لأنني كنت خادمة في البيوت… وحكم علي بالعنوسة من أجلهم… أعيش وحيدة على إحسان الجيران بي… بعد أن أفنيت عمري من أجل إخوتي خدّامة في البيوت… بلا جزاء ولا شكور… وبلا ضمان اجتماعي أو تقاعد يحفظ كرامتي في شيخوختي… عاشوا بين دفء الوالدين والأسرة، وعشت وحيدة محرومة بين عواصف الزمن وظلم المشغلين.. أعطيتهم عمري وعرقي ومالي بلا حساب، واستنزفوني بلا رحمة أو شفقة… ! حتى أولئك الذين ربيتهم -أبناء الأسر الميسورة- وكنت (دادا) لهم… تنكروا لي بعد أن شق كل طريقه.. وصرت نسيا منسيا!
صرت كتلك الدجاجة المخدوعة التي كادت تجن حين طار فراخها للسباحة في بركة.. لتكتشف مصدومة أنها كانت تحضن ببض البط بدل بيضها…؟!
فلا هؤلاء ولا أولئك على الأقل يعترفون بالجميل، ويرحمون شيخوختي، ريثما يقبض الله الروح مستورة.. لكنني رغم هذا، أحمد الله تعالى أني لم أغضبه قط، وأنه لن يضيعني أبداً… فقد قيل لي (ضاحكة) أني سأصير شابة في الجنة… وهناك إن شاء الله سأختار زوجاً أليس كذلك؟!