وجوب ترك الشبهات خشية الوقوع في المحرمات


عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت النبي  يقول : >إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعْلمُهُنّ كثير من الناس، فمِن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل مَلك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإنّ في الجَسَد مُضْغة إذا صلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب<(رواه البخاري ومسلم).

تـــقــــديـــــم

هذا الحديث من قواعد الدين وأسسه التي يقوم عليها وهو رابع الأحاديث الأربعة التي ترجع إليها تعاليم الإسلام كلها وهي :

1- >إنما الأعمال بالنيات..<.

2- >ازهد في الدنيا يحبك الله…<.

3- >من حسن الإسلام تركه مالا يعنيه..<.

4- والحديث الذي بين أيدينا : >الحلال بين والحرام بيّن…<.

شـــرح ألفـــاظ الحــديـث :

>الحلال : المباح من قول أو فعل أو سلوك، أو مأكل أو مشرب أو ملبس.. مما أحله الله لعباده في الكتاب والسنة وأباحه لهم وأمرهم به.

>الحرام : الممنوع قولا أو فعلا أو سلوكا، أو مأكلاً أو مشربا أو ملبسا.. مما حرمه الله على عباده ومنعهم منه ونهاهم عنه.

> بيِّنٌ : واضِحٌ، جليٌّ، ظاهِرٌ.

> مشتبهات، وشُبُهات : ما يلتبس فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام، ويصعب فيه التمييز بينهما.

> اتقى الشبهات : تجنبها وابتعد عنها، وصان نفسه من ارتكابها والوقوع فيها.

> الحمى : المكان المحميّ بعلامات يعْرفها الناس ليحترموه.

شـــرح مــعــاني اـلحـديـث :

1- بين الرسول  أن الحلال والحرام واضحان ومعروفان، روى الترمذي وغيره عن سلمان الفارسي أن رسول الله  قد سئل عن أشياء من المطعومات أحلال هي أم حرام؟ فقال  : >الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه<.

فحدود الله معروفة، ومعالم دينه محدودة، والقرآن يبيح الطيبات ويحذر من انتهاك الحرمات ويبتعد بالمسلمين عن الشبهات.

2- كما يحث  في هذا الحديث على ترك المتشابهات من الأمور في المطعم والمشرب والملبس والمنكح والبيع والشراء وغير ذلك. لأن ذلك من الوَرَع، والمتورع الكامل الإيمان يترك ما يشك في حكمه خشية أن يقع فيما نهى الله عنه عملا بما جاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما عن جده  : >دَعْ ما يُريبك إلى ما لا يُريبُك<.

وليس الورع أن يترك المرء ما نَصّ الكتاب والسنة الصحيحة على حلِّه، ويدَّعي أن ذلك زهد في الدنيا، ومنعٌ للنفس من شهواتها، فإنما هي من زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق التي أباحها للمؤمنين بقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون}(البقرة : 171).

قال أبو قلابة التابعي رحمه الله : أراد أناس من أصحاب رسول الله  أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهبوا، فقام رسول الله  فغلظ فيهم المقالة، ثم قال : >إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الدين والصوامع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يُسْتقَمْ بكم< قال : ونزلت فيهم : {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين}(المائدة : 89)

3- وباتقاء الشبهات تقع براءة المسلم في دينه وعرضه، فلا يُلام على شيء فعله، ولا يعاقب على شيء تركه، فقد وجد رسول الله  تمرة في الطريق فلم يمنعه من أكلها إلا خشية أن تكون من الصدقة التي حرمها الله على محمد وآل محمد.

4- كثير من الناس  يتنطع في تحريم ما أحله الله، ويستخف بتحليل ما حرّمه الله تعالى، إما لجهل يضل به ويُضل غيره في نسبة أشياء إلى الدين وما هي منه، وإما لنية خبيثة يقصد من ورائها الخداع والمكر، ويتظاهر بالزهد، وما في قلبه ذرة من خوف الله.

5- قد يحمل الاستخفاف بالشبهات بعض الناس إلى طاعة النفس بشهواتها وملذاتها، وحرصها على الدنيا وتفانيها في جمع المال حتى تسوقه إلى ارتكاب الحرام فيدخل النار.

6- من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها.

7- المضغة التي يترتب عليها صلاح الجسد وفساده هي القلب، وسائر الأعضاء تابعة له فيما يريد ومالا يريد.

8- أنواع القلوب أربعة :

- قلب أجرد : فيه مثل السراج يزهر، وهو قلب المؤمن فيه نور.

- قلب أغلف : مربوط على غلافه، وهو قلب الكافر.

- قلب منكوس : وهو قلب المنافق عرف ثم أنكر.

- قلب مصفح : وهو قلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلب عليه.

9- ذكر ابن القيم رحمه الله أن القلوب ثلاثة : قلب صحيح وقلب سقيم، وقلب ميت. وبيّن أن القلب السليم هو ما سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسَلِم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله  في خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذه حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.

مــســتــفـــادات :

1- اتقاء الشبهات، والبعد عن  التهم ومواطن الريبة من حزم ا لرجل المسلم، وفيه براءة دينه وعرضه.

2- المكروه باب مغلق بين المباح والحرام، ومن فتحه على نفسه دخل منه إلى الشر والهلكة.

3- من تهاون في المندوب ترك الواجب.

4- من تساهل في المكروه فعَل الحرام.

5- القلب هو محل الإيمان وا لكفر، والطاعة والمخالفة وهو مقر العقل الذي يعرف به الحسن والقبيح، والضار والنافع.

6- أعظم ما يصلح به القلب، وتنشط به الأعضاء في طاعة الله هو العلم الذي تقع به معرفة الله تعالى ومراقبته في كل حال، والخوف منه ورجاؤه، والرغبة فيما عنده، والرهبة مما لديه، والإعتماد في المهمات كلها عليه، ويترتب عليه الاعتقاد الصحيح، والتصديق بجزاء الناس على أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرا فشر.

7- أعظم ما يفسد به القلب هو الجهل الذي يقع به الاعتقاد الفاسد، والجرأة على الله بانتهاك محارمه وفعل معاصيه كالعجب والكبر، والحسد، والرياء، وسوء الظن بالله وبعباد الله، واحتقار النعمة، والاستخفاف بأوامر الله.

قال تعالى : {أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربّه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك في ضلال مبين، الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد}(الزمر : 21- 22).

8- القلب السليم -كما ذكره ابن القيم- هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ومحبة، وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحبّ كان حبه في الله، وإن أبغض كان بغضه في الله، وإن أعطى كان عطاؤه لله، وإن منع كان منعه لله.

> من كتاب : إصلاح المجتمع

لمحمد بن سالم البيحاني بتصرف

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>