يتساءل الكثير من الطلبة والمثقفين : هل أن المعارف الإنسانية كالتاريخ والنفس والاجتماع والسياسة والفلسفة.. الخ.. يمكن اعتبارها “علوماً” أسوة بالعلوم الصرفة أو التطبيقية؟
والحق أن الظواهر التي ترتبط بالإنسان فرداً أو جماعة يصعب ضبطها وإخضاعها للدراسة والوصول إلى نتائج نهائية قاطعة، على غرار ما يحدث في ساحات التعامل مع الظواهر المادية في الفيزياء والهندسة والكيمياء وطبقات الأرض والنبات والحيوان..
والذين تصوّروا ذلك من كهنة العقل الغربي ووضّاعيه، وقعوا في الخطأ وتعرّضت كشوفهم وادّعاءاتهم للاهتزاز والتغيير، وربما السقوط.
ثمة هامش واسع للاحتمال في هذه المعارف “الإنسانية” حيث يصير “الإنسان” هو الموضوع ونقطة الاستقطاب. والإنسان ليس طبقة ثنائية الأبعاد ولكنه شبكة معقدة يصعب إخضاعها للاختبار النهائي. وإذا كان العلم الصرف قد قطع خطوات واسعة في إدراك أسرار الطبيعة والكشف عن ظواهرها، فإن العلم الإنساني لم يقطع سوى مسافات محدودة.. ولذا يتحتّم ألاّ يأخذنا الغرور إلى الحدّ الذي نتصوّر معه أننا قد احطنا بالظواهر الإنسانية علماً. ولسوف تظل هناك مساحات واسعة في سياق هذه الظواهر بحاجة إلى الكشف والتحقيق. وجل البحوث والدراسات -إذا أردنا الحق- لم تفعل بأكثر من تنفيذ مقاربة للظاهرة أما الإحاطة بها علماً فأمر يكاد يكون مستحيلاً.
ولست أدري كيف تحضرني الآن لجاجة أحد أساتذة علم الآثار في محاولة محاكمة المعطيات القرآنية التاريخية على الكشوف الآثارية، والوصول بالتالي إلى نوع من التشكيك الساذج ببعض تلك المعطيات! كثيرون ممن أصيبوا بنوع من الورم السرطاني في حلقات المعارف الإنسانية وقعوا في الخطأ نفسه، ووصلوا -بالضرورة- إلى نتائج خاطئة، ورحم الله المتنبي القائل مخاطباً سيف الدولة الحمداني :
أعيذها نظرات منك صائبــة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم!
وعلى سبيل المثال، فإن ماركس وانغلز بَنَيا مساحات واسعة من بحوثهما التاريخية والاقتصادية على دراسات (مورغان) عن قبائل (اروكوي) وكتاب (جورج لودفيغ فون ماورد) عن (التقاليد البلدية وعادات الأراضي الزراعية عند قدامى الألمان) في تلك المرحلة السحيقة من الزمن حيث يبدو كل شيء غامضاً ومغطى بالضباب، وحيث يمكن للمرء أن يثبت أي شيء ويبرهن على أي شيء بواسطة المادة المعطاة فيهما، فهي يمكن أن تحرّف بسهولة لأجل الوصول إلى نتائج كانت في الذهن أوّل الأمر.
وعلى سبيل المثال أيضاً فان بمقدور المرء أن يتذكر العبارة المعروفة للاقتصادي البولندي (أوسكار لانكه)، أحد أكبر أخصائيي الدول النامية، وهو يستعرض جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ما قبل الرأسمالية منذ عصر (ماركس) وحتى عصر (بورشييف حيث يقول : “لكن هذه الدراسات جميعها مفككة، لذلك فاإن الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لما يخرج بعد إلى حيّز الوجود باعتباره فرعاً منظماً من فروع الاقتصاد السياسي”.
لا ينكر أن هناك مفردات وحلقات من المعارف الإنسانية يمكن التوصّل بصددها إلى يقين قاطع بسبب توفّر المادة والشروط وأدوات العمل المنهجي، لكن هذه المعارف ـ بعامة ـ لن تكون بأكثر من علوم احتمالية يصعب عليها الوصول إلى اليقين في كل الميادين، والظواهر والمفردات.
وثمة فارق كبير بين الكشف “الغربي” في دائرة العلوم الصرفة أو التطبيقية شبه المؤكدة، وبين هذا الكشف في دائرة العلوم الإنسانية، ويكفي أن نتذكر أن العقل الغربي نفسه، وهذه إحدى نقاط تألقه، طالما مارس النقد فغيّر وبدّل في نتائج الكشوف المعرفية الإنسانية، بل إنه مضى إلى ما هو أبعد من هذا، فأسقط من الحساب أنساقاً من الكشوف وأحلّ أخرى محلّها..
عموماً فإننا لسنا ملزمين بقبول الخطأ.. أو إضفاء حالة القداسة على الكشف الغربي في المعارف الإنسانية، وهو كما تبين لنا كشف احتمالي.. وعلينا أن نتذكر ـ كذلك ـ أن الأسس التصوّرية التي انبثق عنها الكثير من تلك الكشوف تتناقض ـ ابتداء ـ مع ثوابت الإسلام ومرتكزاته الأساسية. وقد عفى التاريخ ولا يزال على حلقات كثيرة من تلك الكشوف التي ادّعى أصحابها وتلامذتهم أوّل مرة أنها “علمية” لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!!