فرضت الكارثة الاقتصادية التي لحقت بالأسواق المالية الأمريكية نفسها على العالم أجمع، وما زالت تلك الكارثة غير المسبوقة والتي سماها المراقبون “أزمة القرن” تؤثر في أسواق العالم أجمع، خاصةً الأوروبية والآسيوية التي ترتبط بأمريكا بحبل سري وبسبب هيمنة أمريكا اقتصاديًّا وسياسيًّا على العالم، وفرضها سياسات العولمة على الجميع.
ورغم إقرار الكونجرس الأمريكي خطة الإدارة الأمريكية بعد تعديلها وبأغلبية كبيرة؛ بسبب حجم الكارثة ولدواعي الانتخابات القادمة بعد شهر، ومعارضة المواطن الأمريكي العادي الذي خسر حتى الآن أكثر من ثلث مدخراته، خاصةً أصحاب المعاشات؛ فإن قدرة تلك الخطة على إنعاش الاقتصاد وحل الأزمة ما زال محلَّ شكٍّ كبير لدى المحللين والمراقبين، ويتداعى القادة الأوروبيون لقمة اقتصادية وسط اتهامات غير مسبوقة لأمريكا وسياستها الاقتصادية، وتنهال الاتهامات أيضًا من روسيا وكندا، ويجمع الجميع أن ما بعد الكارثة لن يكون كما كان قبلها اقتصاديًّا وكذلك سياسيًّا.
ومنذ سنوات طويلة ارتبط الاقتصاد بالسياسة، وأصبح تأثير القدرة الاقتصادية على النفوذ السياسي واضحًا لا لبس فيه؛ فهل سيكون لتلك الكارثة آثار سياسية على قدرة أمريكا في العالم وقيادتها للأحلاف العسكرية وهيمنتها المطلقة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي منذ عشرين سنة؟!
إن أول تداعيات “الكارثة” هو انهيار فكرة “العولمة” التي روَّج لها مبشرون كثيرون، والتي ربطت الاقتصاد بالثقافة والسياسة؛ فقد كان السبب الرئيسي في الكارثة هو “الليبرالية المتوحشة” والأفكار المتعلقة بحرية السوق، بعيدًا عن الرقابة الحكومية وحزمة الأفكار والسياسات التي روَّج لها “المحافظون الجدد”، والتي عُرفت بـ”العولمة”.
لقد ظهرت العولمة كغطاء ناعم للاستعمار الأمريكي الجديد الذي عرض نفوذه في أرجاء العالم، وقد ربط كافة المؤرخين صعود الإمبراطوريات العالمية في التاريخ بقدراتها الاقتصادية والعسكرية، وها هي سنن الله تنطبق على الإمبراطورية الأمريكية؛ فالانهيار الاقتصادي الحالي ضرب معظم جوانب الاقتصاد والحياة الأمريكية في التوظيف وفقدان الوظائف وفي الاستهلاك والقدرات الشرائية وفي الاستثمار والشركات الإنتاجية، ولم يقتصر فقط كما يظن البعض على الأسواق المالية الخاصة بالأسهم والسندات والقطاع المالي كالبنوك وشركات التأمين بعد انهيار سوق الرهن العقاري، وهذا الانهيار سيؤدي لا محالة إلى ضعف القدرات الاقتصادية الأمريكية، وبالتالي سينعكس على “المجمع الصناعي العسكري”، ولن تنقضي بضع سنوات إلا وستضعف القدرة العسكرية الأمريكية، وستعود إلى سيرتها الأولى قبل بروز فكرة الهيمنة الإمبراطورية والسيطرة العسكرية على العالم، وشن الحروب الاستباقية في أكثر من مكان.
أما أوروبا التي عاشت خلال أكثر من نصف قرن تابعةً لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية التي فرضت النفوذ الأمريكي العسكري والسياسي والاقتصادي على الدول الأوروبية الكبرى ثم على الاتحاد الأوروبي؛ فها هي تخرج منها تصريحات ومؤشرات تدلِّل على تحرُّرها من ذلك النفوذ الأمريكي، خاصةً من ألمانيا وفرنسا وحتى من بريطانيا التابعة المخلصة؛ فقد بدأت تتململ من السياسات الأمريكية.
وإذا برزت أوروبا كقطب مستقل عن الهيمنة الأمريكية؛ فإن ذلك يعني تنافسًا عالميًّا جديدًا أو استعدادًا لوراثة العهد الأمريكي، وعودةً إلى قيادة أوروبا العالم من جديد، ولكن مع وجود منافسين عالميين آخرين، خاصةً روسيا والصين والهند.
أوروبا اختلفت مع أمريكا خلال السنوات الماضية في عدة ملفات؛ كان أبرزها الحرب على العراق، والموقف من الملف النووي الإيراني والسياسات العدوانية تجاه روسيا.
لقد اهتزت ثقة أوروبا وقيادتها في القيادة الأمريكية للقطار الغربي الرأسمالي، واهتزت ثقة الجميع في قدرة أمريكا على قيادة الاقتصاد العالمي، وبالتالي في قدرتها على رسم السياسات في العالم، وبالتالي ستنفصل المصالح الأوروبية عن تلك الأمريكية، وهنا سنصبح أمام تبلور نظام عالمي جديد.
هل ستعود روسيا إلى نظام اقتصادي مختلف بعد التأثيرات الضخمة للكارثة على اقتصادها وعلى أسواقها المالية الناشئة؟ سؤال يفرض نفسه ولكن على الأقل سياسيًّا؛ فقد تدعم موقف روسيا الجديدة التي يقودها بوتين ويريد لها نفوذًا عالميًّا مستقلاً.
أما الصين التي تراقب من بعيد؛ فلا أخبار ولا تحليلات عن مدى الخسارة التي لحقت بها وبأسواقها واقتصادها، خاصةً أنها من أكبر المستثمرين في السوق الأمريكية المنهارة، والظاهر أنها لن تتأثر كثيرًا؛ بسبب دور الحكومة في الرقابة والقيادة الاقتصادية والحذر الصيني المعهود، وبالتالي سيتعزَّز نفوذ الصين السياسي في العالم.
هنا قد يتكون محورٌ جديدٌ آسيويٌّ بعيدٌ عن التهديدات الأمريكية والأوروبية وبسبب انشغال الغرب بمشاكله الاقتصادية.
> ماذا عن منطقتنا العربية والإسلامية؟
لقد عاشت المنطقة محلاًّ للنفوذ الاستعماري الغربي الأوروبي ثم الأمريكي، وتجاذبتها آثار الحرب الباردة خلال الخمسينات والستينات قبل أن تعود إلى الحظيرة الأمريكية في الثمانينيات وحتى الآن.
فهل نتحرر من النفوذ الأمريكي إذا ضعفت القدرات الأمريكية أم أن اعتماد نخبنا السياسية والاقتصادية على التبعية سيجعلهم يبحثون عن راعٍ جديد وصاحب نفوذ أقوى؟ أم ستضرب الفوضى في المنطقة وهناك من العوامل والأسباب الداعية إليها الكثير؟ أم ستنهض قوى المقاومة والممانعة بعد الكارثة التي ألمت بأمريكا وأوروبا؟!
المشكلة الرئيسية أن الربا والسياسات الاقتصادية المتعلقة به من “خلق النفوذ” الوهمية والائتمان الذي لا يعتمد على أسس واقعية؛ بل على مجرد الثقة والنفوذ المالي وتنامي النزعة الاستهلاكية والبحث عن الربح الحرام من أي طريق، هذا الربا الحرام في كل الشرائع السماوية سيطر على مفاصل الاقتصاد العالمي، ولا يقدر المسلمون على تقديم البديل الإسلامي في اللحظة الراهنة؛ بسبب حال الضعف السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري الإسلامي رسميًّا وشعبيًّا ونخبويًّا.
ستنهار الإمبراطورية الأمريكية، وبعدها ستتحلل الدولة الأمريكية نفسها كما انهارت وتحللت قوى كبرى عالمية من قبل، وسيعود الاتزان إلى المساحة العالمية، وقد يكون ذلك مناخًا مواتيًا لصعود قوة إسلامية واحدة؛ تحقق للمسلمين مكانةً تليق بهم وبرسالتهم التي جعلها الله رحمةً للعالمين.
د. عصام العريان
> المجتمع ع 1822