إن الله تعالى خلق هذا الكونَ، وخلق كلّ شيء فيه لوظيفة خاصة به، فالماءُ يُرْوي، والنار تُحرق، والبحْر يُغرق، والسُّمُّ يقتل، والطّعامُ يُشْبع، وهكذا كُلُّ شيْءٍ في الوجود له وظيفة أو وظائف خاصة لا يقوم بها غَيره، ولهُ حِكمة أو حِكم خاصة عرفها من عرَفها وجهلها من جهلها.
كما أن كلَّ شيء في هذا الوجود يجري وفْقَ سُننٍ مُطّرِدةٍ، وأسْبابٍ كوْنيّة معْلُومة، ونواميسَ ربّانية مغروسةٍ في طبيعةِ كُلّ شيء، بمقتضاها يسيرُ الكوْن، ويعْمُر الإنسانُ هذا الكَوْن، وبمقتضاها يتصَرًّف الإنسانُ في هذا الكون، فلا تتغيّر أحوالُ الإنسان إلا وفق ما أرادَ واخْتَار لنَفْسِه -بحرية مستمدّة من خالقه- من شقاءٍ أو سعادة، وتقدُّم أو تأخر، قوّةٍ أو ضُعْفٍ عِزَّةٍ أو ذلة، إيمان أو كُفْر، مقاومة أو خضوع واستسلام، نظام أو فوضى واضطراب، توحُّدٍ أو تفرُّقٍ، صلاحٍ أو فسادٍ… وهكذا إلى ما لا نهاية في الثنائيّات المتضادّة خضوعاً للقانون الرباني {إنّ اللّه لا يُغَيِّر ما بقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنْفُسِهِم}(سورة الرعد).
وهذا القانون لا خَرْقَ له، ولا تفلُّتُ منه في عالَم الأسْباب والقوانين الطبيعية الكامنة في كل ما خلقَهُ الله عز وجل من الأشياء سواء كانت مادّيّة أم معنويّة، فلا تناسُل بدون تماسٍّ بين الذَّكر والأنثى، ولا تعَلُّم بدون معلم، ولا تطوُّر بدون علم، ولا غَلَبةَ لقِلَّةٍ على كثْرة، -إلا ناذرا- ولا غلبة لفَوْضَى على نظام، ولا عُبور لبحْرٍ أو نهْرٍ بدون سباحة أو سُفن، ولا أمطارَ بدون رياح وسُحُب، ولا نجَاةَ لمَن انْسَدَّ عليه غارٌ بصخرةٍ لم يستطع زحْزَحَتَها، ولمْ يسخِّرْ الله لَه منقذاً يُنْقِذُه… لكن أمورا حدتث بإرادة الله وهي خارقة لهذا القانون الطبيعي الشامل منها :
> أن مرْيَم العذراءَ ولَدَت عيسى عليه السلام بدون أن يمسَّها بشر؟!
> وآدم عليه السلام خلقه الله تعالى بشراً سوياً من صلصال كالفخّار؟!
> والثلاثة الذين انسدّ عليهم الغَارُ بصخرة عظيمة خرجوا منه بدون روافِعَ ولا حفّارات؟!
> وأصحابُ الكهف ضربَ الله على آذانهم ثلاثمائةٍ وتِسْع سنوات؟!
> وابراهيم أُحميَتْ له النار أيّاما فقُذفَ فيها ليخْرُج فحْمةً ورماداً فخرجَ منها بشراً سليما يمْشي على الأرض بدون أن تمسّ النار شعرة واحدة منه؟!
> وذو النون أُقْبِر في بطن الحوت أياماً وخرج منه نبيّاً مرسلا؟!
> ورسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم خَلَقَه ا لله يتيما في بيئة أمِّيّةٍ جاهلة، فعلَّمه الله تعالى ما لم يعلم، فكان أستاذاً خالداً للبشرية إلى يوم الدين، وصحابته الذين اجتباهم الله تعالى كانوا جيلا فريداً في الكمال الإنساني العالي بدون أن يدخلوا إلى مدرسة أو يتخرجوا من كلية؟!
> والقرآن الذي أنزله الله تعالى على رسوله مُكوَّنٌ من الأَلفاظ والجُمل والتراكيب العربية التي بَرَع فيها أصحابها إلى درجة التفاصُح والتفاخُر ببلاغتها، ومَع ذلك عَجَزُوا عن أن يأتوا بأقْصَر سورة من مثل سُوَر القرآن، رغم التحدي الذي تحداهم الله تعالى به؟!
> وأصحابُ بَدْرٍ كانوا مجرد ثلاثمائة وثلاثة عَشَر من الجياع الحُفاةِ العُراةِ ولكنهُم هَزَموا ألْفاً من صناديد قريش الطغاة العُتاة، فأسروا وقتلوا وغِنِمُوا وعزُّوا.
> وأصحاب الأحزاب الذين كان عدَدَهم فوق اثنَىْ عشر ألفاً من الشجعان الأشداء حاصروا المسلمين وأحاطُوا بهم إحاطة السِّوار بالمعصم أكثر من عشرين يوما ليُصفُّوهم تصفيةً نهائيةً إلاَّ أنهم فَرُّوا أخيراً فزِعين مذعورين من ريحٍ قَلعت خيامَهم وكفأت قدورهم، وبرْدٍ زعْزَع كيانَهُم، فأصبحوا أثراً بعد عين.
هل هذا يخضعُ لقانون طبيعي من القوانين الطبيعية المُطّردة في سُنَن الكون ونواميسه؟! أم هناكَ نظامٌ آ خرُ خاصّ بالمومنين والربانيين؟!
> إنَّه نظامٌ خاص يمْنَحُه الله تعالى لعباده المرسَلين وعباده الصالحين، وجنوده المخلصين، وأوليائه المتقين، ليُمَكِّن لهم ولرسالتهم الدينيّةِ التي يفتحون بها أعْيُن الغافلين، وينوِّرون بها قلوبَ الضالين التائهين.
> إنَّهُ قانونُ الإيمان الصادق في مواجهة الكفر الجاحد.
> وقانون الدّعوة والرسالة في مواجهة العبث واتخاذ الحياة الدنيوية لهواً ولعباً.
> وقانون الأخلاق الإنسانية السامية في مواجهة الأخلاق السافلة الهابطة.
> وقانون الأخذ بالأسباب والتوكُّل على الله تعالى في مواجهة المتألِّهين المغرورين بزينتهم وقوتهم المادية.
> وقانون الذي باع الدنيا بكل زينتها ولذائذها واشترى الآخرة بكل تكاليفها وتبعاتها وبأسائها وضرائها، أملاً في نيْل الرِّضا والرضوان داخلَ غُرفها وعرْصاتِ أشجارها.
إنه سلاح القوة أبداً؟! السلاح الذي لا يُفَلُّ أبداً؟! سلاح المنتصر أبداً؟! سلاح النور أبدا؟! سلاح السلام أبدا؟! سلاح الهدى أبدا؟!
وكيف لا يكون كذلك وخالِقُه يقول لحامليه : {قُلْ هلْ تربَّصُون بِنا إلاّ إحْدَى الحُسنييْن؟! ونحْنُ نتَرَبَّصُ بُكُمْ أن يُصِيبَكُم اللّهُ بعذَابٍ من عِنْدِه أو بأَيْدِينا؟! فتَرَبَّصُوا إنّا معكُمْ مُتَرَبِّصُون}(التوبة : 52).
ويقول لهم : {لا يغُرّنّك تقَلُّب الذِين كَفُروا في البِلادِ}(آل عمران : 196) ويقول لهم : {ولا تحْسِبَنّ الذِينَ كَفُروا مُعْجِزِين في الأرْض}(النور : 55) ويقول لهم : {ولا تحْسِبَنّ اللّه غَافِلاً عمّا يعْمَلُ الظَّالِمُون}(ابراهيم : 44).
سلاحٌ عرفَهُ الأنبياءُ والمرسلون مُنْذُ عهْدِ نوحٍ إلى محمد ، وجرَّبَه المومنون الصادقون مُنْذُ عهد محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصر العولمة الكُفرية فما وهَنُوا لِما أصابهم في سبيل الله وما ضعُفُوا وما استكانوا، بل استقاموا وصبروا وتحمَّلُوا واحتسبوا!! وقالوا في تضرع وخشوع {ربَّنَا اغْفِرْ لنَا ذُنُوبَنا وإسْرافَنَا في أمْرِنا وثبِّتْ أقْدامنا وانْصُرْنا على القومِ الكافرِين فآتاهم اللّه ثوابَ الدّنيا وحُسْن ثوابِ الآخرةِ والله يُحِبُّ المُحْسِنِين}(آل عمران : 147).
فما بالُ عُبّاد الدّنيا سكروا بحُبِّ الدّنيا وحبِّ المال والشهوات فاشتغلوا وشغلوا شعوبهم بعُلوم الدنيا فقط في كلِّ المجالات حتى أخرجوا أجيالاً ملحدةً متنطعةً متزندقة لا تعرف لله تعالى حقا، ولا للرسول حقا، ولا للدِّين حقا، ولا للوالدَيْن حقا، ولا للأولاد حقا، ولا للشارع حقا، ولا للآخرة حقا، ولا للأسرة حقا، ولا للفضيلة حقا، ولا للسياسة حقا، ولا للرسالة الإسلامية حقا، وللدّعوة حقا؟!
وما بَالُ كبارِ قومنا كَدَّسُوا مختلِف أنواعِ الأسْلِحة الماديّة في المخازِن، ورَصَدوها لإذْلال شعوبهم حتى علاها الصَّدأ والبِلَى، ونسُوا شحْذَ عزائم شعوبهم بمختلِف أنواع أسلحة الإيمان والصِّدْق والعدْل والمروءة والعِفّة والخشية من الله تعالى… التي لا تصْدَأ أبداً، ولا تبلى أبداً؟!
ألَم يعْرف كبارُ قومنا أنهم يجْنُون على شعوبهم وأمّتهم جنايةً لا يجْنُون هم ولا شعوبُهم منها إلا الذّلّ والصّغار بين الكبار والصّغار؟! {منْ كانَ يُرِيدُ ثوَابَ الدّنْيا فعِنْدَ اللّهِ ثَوَاب الدّنْيا والآخِرة وكانَ اللّه سمِيعاً بصيراً}(النساء : 133).
وما كان أفْقَه عُمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سطّر هذا الدّسْتور الرائع للمسْلمين!! سواءٌ في عالَم المادة والروح!! أو عالَم النفس والخُلُق!! أو عَالَم السياسة المدنية والعسكرية!! حيث أرْسَل لقائِده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو يتأهَّبُ لخوض المعارك مع المجوس عَبَدة النار والشيطان.. قائلا : >أمّا بعْدُ فإِني آمُرُك ومَنْ معَك مِن الاجْنَادِ بتقْوى اللّه على كُلِّ حال، فإن تقوى اللّه أفضلُ العُدة على العَدُوِّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرُك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراساً من المعاصي مِنكُم من عدوِّكُم، فإن ذنوبَ الجَيْش أخْوفُ عليْهم من عدُوِّهِم، وإنما ينْتَصِر المسلمون بمعْصِيَة عدُوِّهم للّه، ولوْلاَ ذلك لم تكُن لنا بِهِم قُوّةٌ، لأن عددَنا ليس كعدَدِهم، ولا عُدَّتُنا كعُدّتِهم، فإن اسْتويْنا في المعصية كانَ لَهُم الفضلُ علينا في القوَّة، وإلاّ نُنْصرْ عليهم بفضلنا، لمْ نغْلِبْهم بقوّتِنا… ولا تقولوا إن عدوّنا شرٌّ منا، فلن يُسَلَّط علينا وإن أسأْنا، فرُبَّ قوْمٍ سُلِّط عليهم من هو شَرٌّ منهم، كما سُلِّطَ على بني اسرائيل -لما عملوا بمساخط الله- كفَرَةُ المجُوس فجاسُوا خِلاَل الديَار وكانَ وعْداً مفعُولاً<(1).
إلاّ تفْهَمُوا وتعُوا وتسْتيقظوا ضرَبَ الله عليكم حجاب الغباءِ والبلادة، و{إلاّ تنْفِرُوا يُعَذِّبْكُم عذاباً أليماً ويسْتَبْدِل قوْماً غيْرَكُم ولا تضُرُّوه شيْئاً واللّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدٍير}(التوبة 39).
—-
- العقد الفريد 153/1.