إن الإسلام بحقِّه وحقيقته وأحقِّيَّتِه، كفيلٌ بأن يُقارِع كلّ الخصوم، ويقْمع كل المجادلين المعاندين.
وإن الإسلامَ بطُهْره ونقائه وصفائه وأصَالَته كفيلٌ بأن يجتَذِب كلّ الشرفاء الأحرار، والأُصلاء الأخيار الذين يحبُّون أن يكونُوا مُجَنَّدِين في خِدْمة المبادئ العُلْيا -بسلامة فِطرهم-المتَنَاسبة مع هِمَمِهم العالية التي لا تَرضَى أن تكون مُتَمَرِّغَةً في وَحَل التراب، ووَحَل شهواتِ الأهواءِ الخادمة لأغراض الأجْسَادِ الطينية.
وإن الإسلام بارتباطه بالله الحيّ القيُّوم القَويّ القادر المُقْتدِر العليم الخبير الذي لا يعْزُب عن عِلْمِه مثقالُ ذرة في السماوات والأرضين كَفِيلٌ بأن يصْنَعَ من المسلم المومن حقّاً وصدقا أقوى قوةٍ ضاربةٍ في الأرض، وأعْدل قوةٍ مُتَمكِّنة من رقاب البشريّة بالحقّ والعدْل والهيْبَة والحب والاحترام.
إن مبدأً واحِداً من مبادئ الإسلام الخالدة هو مبدأ >خفْض الجَنَاح للأتْباع< كسَّر غرُورَ الجاهلية وضَرَب عُنْجُهيَّة تعاليها وتعاظمها في الصَّمِيم، فالله عز وجل عندما قال لرسوله وللمسلمين {واخْفِض جَنَاحَكَ لِمَن اتّبَعَكَ مِن المُومِنِينَ}(الشعراء : 214) كوَّن مع صحابته الكرام أمَّةً فريدة في التاريخ في متانةِ رَوَابِطِها، وقوة أواصرها، وصِدْق تلاحُمِها في وجْهتها وتوجُّهِها البنائِيِّ للإنسان الصالح المصلح، فقد كا ن قائداً، وإماماً، ومرشداً ولكنه لا يتميَّزُ عن صحابته الكرام إلا بما مَيّزَه الله تعالى به من النبوة والوحي والرسالة، سواء كان صحابته عبيداً أم أحراراً، شباباً أم كهولا، فقراء أم أغنياء، من أنساب رفيعة أم أنساب وضيعة، فالكُلُّ بالنسبة إليه بمثابة الأولاد، وهو بالنسبة إليهم بمثابة الأَب المثالي الحاني الذي يُقيل العثرة ويصفح عن الزلة، ويمسح الجرحة، ويُنهض الهمة، لا استبدادَ ولا احتقار، ولا عُبوس، ولا تبرُّم ولا اسْتِئثَار….
أنعجَبُ بعد ذلك إذا رأينا أن صحابته يفدونه بأنفسهم، ويحبونه أكثر من حبهم لأنفهسم وأزواجهم وأولادهم وعشائرهم وأموالهم؟!
وهل نعجب كذلك إذا علِمْنا أن يوم موته كان مأتماً كبيراً لا نظير له في التاريخ؟!
وهل نعجب كذلك إذا رأينا هذه التربية الليّنة، وهذه القيادة المتواضعة أثمرت قادةً يقفون أمام الأكاسرة والأباطرة يدعونهم إلى الله تعالى بعزة نفس وعلُوّ همة غير مبالين بقصورهم وجيوشهم وأسلحتهم ومناصبهم؟!
وهل نعجب كذلك، إذا رأينا أن هذه التربية الربانية قد أثمرت خلفاءَ يلبَسُون المرقعات، وخلفاء يحلُبون الشياه للجواري، ويكنسون للعجائز الأزبال، ويطبخون الطعام للأطفال والأرامل؟!وهم في أسْمالهم وتواضُعهم ترتَعِدُ منهم الفرائص؟!
ذلك مبدأ واحدٌ من مبادئ الإسلام قضى على ديكتاتورية الجاهلية وتميزها بالأعراق والأنساب، واعتزازها بالأموال والأولاد، فما بَالُك ببقية المبادئ والتشريعات والأخلاق التي هي كلها إعجازٌ في إعجاز!!
ولذلك عندما عجز الجاهلون عجزاً تاما عن الإتيان ببعض ما يشبه تعاليم الإسلام لجأوا إلى سلاح العاجز، وسلاح العاجز هو الشتم، والسّبّ، والتشويه، والضرب، والتجويع، والحبس، والقتل، إلى غير ذلك من أسلحة العاجز السفيه قديما وحديثا.
ولذا كان لابد من ضربة ربانية موقظة، يفهمُ منها السفهاء البلداء أن لهذا الدين -الإسلام- ربّاً يحميه، ويفهم منها المومنون الصادقون أنهم يعتمدون -في إيمانهم وعبادتهم وصبرهم- على رُكْن ركين، وعلى ربٍّ عظيم لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فكانت غزوةُ بدر الضربةَ القاصمة التي قَضَمت ظهر الجاهلية، وتركَتْها تترنَّحُ سنواتٍ عجافاً بعد ما أودَتْ بكبار مجرميها وعُتاة طغاتها، وقد حاولَتْ استردَاد مكانتها بالغدر والمخاتلة والتآمر مع بقية الأعداء والمتآمرين.. إلا أنها لفظت أنفاسَها نهائيا في غزوة الأحزاب، فلم يسَعْها إلا التسليمُ في نهاية المطاف، والاستضاءة بنور الإسلام الذي كتب الله عز وجل له -في الأزل- الظهور رغم كيد الكائدين وتآمر المتآمرين.
> تلك كانت غزوة بدر في فجر التاريخ الإسلامي، ويشبهها في المسيرة الإسلامية الكثير من الملاحم، فملحمة “حطين” كانت بداية الانكسار الصليبي، وملحمة “عين جالوت” كانت بداية الانكسار المغولي، وملحمة “وادي المخازن” كانت بداية الفشل الصليبي في المغرب العربي وشمال إفريقيا.
ألا يمكن أن نقرأ غزوة بدر قراءة دعوية بالنسبة إلى عصرنا الذي شهِدَ طغيانَ الكفر العالمي وتَعَملُقه وتطاوُلَه على شعوب مسلمة غارقة في الجهالة والتخلف والاستبداد ظنّاً منه أنها تمثل روح الإسلام المُخيف للحضارة الكفرية حقا، وما هي كذلك، إذ لو كانت كذلك الظن ما كانت مثالا سيئاً للفُرقة والتنازع على الحكم والتقاتل عليه؟!
وقد ملأ الكفرُ العالميّ الدنيا هديراً وضجيجاً بالانتصارات تلو الانتصارات؟!
وهل تخريبُ أفغانستان وملْؤه بمختلفِ الأسلحة الفتاكة من مختلف الدّول الكافرة الحاقدة يعتبر انتصاراً.
وهل تخريب العراق يعتبر انتصاراً؟! وهل تخريب لبنان يعتبر انتصاراً؟ وهل ابتلاع فلسطين يعتبر انتصاراً؟! وهل تخريب بلد جائع عارٍ كالصومال يعتبر انتصاراً؟!
ولكن الانتصار الحقيقي أن يسْتَعْصِي الفلسطينيون على الإبادة الهمجية ويصمُدُون جياعاً عرايا أمام الكفر العالميّ أكثر من نصف قرن؟! ولا تزيدهم المِحن والبلايا إلا اعتماداً على الله تعالى وثباتاً على دينه؟!
والانتصار الحقِيقيّ ألا يسْتسْلِم الأفغانيون والعراقيون لمخططات الكفر العالمي رغم مسْخِه الإعلامي ومحْقِه التدميري؟!
والانتصار الحقيقي أن ينْبَعِث الصوماليون كأنهم أشباح خارجة لتوِّها من القبور لمقارعة الاستعمار العالمي بأسلحة غايةٍ في البدائية ولكنها ترعب الأعْداء كأنها شُهُبٌ ربّانية مسلطة على الشياطين المتلصِّصة على خبر السماء؟!
والانتصارُ الحقيقي أن تُجمِّد المقاومة اللبنانية الماءَ في رُكَب الاستعمار العالمي الذي ما قصر في جُهْده وعُدته وعتاده لدَفْنِ المقاومة إلى الأبد؟! فكانت النتيجة أن دَفن هيبته إلى الأبد؟!
والانتصارُ الحقيقي أن تستيقظ الشعوب المسلمة على مدافع الكفر وصواريخ الطغيان وتستعدّ لنفْضِ الغبار علن التديّن المغشوش الذي جرّ عليها ما جرّ من المصائب والأهوال. كما تستعدّ لإزالة الديكتاتورية التي جثمت على صدرها قرونا وعقوداً حتى أنْستْها أن العبوديّة الحق لا تكون إلا لربّ الإنسان خالقه ورازقه ومولاه، وهو نعم المولى ونعم النصير!!
فهل يُمكن أن نلمح بداية العد التنازلي للكفر العالمي؟! والطغيان العالمي؟! كما رأيناه في غزوة بدر؟! ونلمح بجانبه بداية الصعود العالمي لرحْمة الإسلام وحضارة الإسلام التي هي الملاذ الأمين للإنسانية الشقية بالكفر والجحود لنعمة الإسلام؟! ذلك ما نرجوه!!