هذه القصة ما أغْنى المسلمين عنها، إذْ لا تُفيد عِلْما:ً، ولا تنهض همّةً. ولولا بعض الآثار المترتبة عنها لكان الإعراض عنها أحْسن وأجدى.
وهذه بعض الآثار المترتبة عنها قديما وحديثا :
1) رجوع المهاجرين من الحبشة : حيث سمعوا أن قريشا سالمت محمداً ورضيتْ دينه فسجدوا معه عندما سجد إثر ختام سورة “النجم” ولكنهم عندما قاربوا مكة عرفوا أن قريشا مازالت على عداوتها للدعوة كما كانت أو أشد.
2) تهافت المستشرقين على ترويج القصة : لتحقيق غرضين كبيرين هما :
أ- الطعن في العقيدة وهي أصل الإسلام، حيث ترويجُها بين جمهور قرائهم وخصوصا المُعْجَبين بهِمْ من شبابنا المغرّب عن دينه.. يصوِّر لهم أن الرسول محمداً ليْس معصوماً من الزلل والفواحش ونزغات الشيطان المُضلِّلة، وبذلك تزول هيبته وقدسيته في النفوس، ويصبح في مرتبة المفكرين والفلاسفة والمصلحين فقط، وليس في مرتبة النبوة والرسالة، وهو غَزْوٌ بليغ ومؤثر.
ب- تصوير الدّعوة على أنها عبارة عن مصالح يمكن للإنسان أن يتنازل فيها عن بعض المبادئ ليحقق أغراضا دنيوية، على غرار : الغاياتُ تبرِّرُ الوسائل. ولهذا لا بأس من المداهنة والمساومة للالتقاء في نصف الطريق، مع أن الإسلام صريح في هذا كل الصراحة {لكُمْ دِينُكم ولِيَ دِين}(سورة الكافرون).
3) مساهمة العلماء من المسلمين في هذه البَلْبلَة : فقد تعرض لها الكثير من المفسرين وكتاب السير، والبعض منهم حاول تأويلها بما يوافق مقام النبوة -دفاعا عنها طبعا-، وهذا في ذاته إقرارٌ بوجودها أصلاً، وهذا الإقرار العَلَنِيّ أو الضِّمْنِيّ هو أول بوادر التشكك والتساؤل.
فما هي هذه القصة؟؟!
القصة الصحيحة التي رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس هي :
>أن النبي قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس<.
وفي رواية ابن مسعود >أول سورة أنزلت فيها سجدة “والنجم” قال : فسجد رسول الله وسجد مَنْ خَلْفه إلا رجلا أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيْتُه بعد ذلك قُتِل كافراً<(1).
وسجود المسلمين طبعا كان سجود إيمان وتصديق، أما سجود المشركين فكان سجود انبهار وإعجاب بجلال الوحي وإعجازه، فانتشر خبر هذا السجود وقيل فيه ما قيل.
أما القصة المُفتَراة فهي التي تقول بأن الرسول عندما قرأ قوله تعالى : {أفرايْتُم اللاّتَ والعُزَّى ومَناةَ الثّالِثَة الأخرى… زاد >تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى< ألكُم الذّكَرُ ولهُ الأنْثَى تِلْك...}(النجم : 18/ 22).
بطلان القصة المفتراة
بطلانها لا يحتاج إلى كبير عناء، إذْ هي باطلة من عدة وجوه :
1- الوجه الأول : لا توجد فيها رواية صحيحة واحدة، وإنما رواياتها كلها مرسلة ومضطربة، ولقد أفاض المحدث الألباني رحمه الله تعالى فيما يتعلق بالروايات المتعلقة بالقصة في كتابه >نصْبُ المجانيق لنَسْفِ قصة الغرانيق<.
2- الوجه الثاني : من حيث السياق القرآني الذي وردت فيه الزيادة المفتراة نجد التناقض صارخاً بين ذم الأصنام وتسْفيه أحلام وعقول متبعيها وعابديها بدون أدنَى تفكير راشد، وبين الثناء عليها واعطائها حق الشفاعة المُرْتجاة، فأي انسجام بين قوله تعالى {أفرايْتُم اللات والعُزَّى ومناةَ الثّالثة الأُخْرى ألَكُم الذّكُرُ ولَهُ الأنْثَى تِلْكَ إذاً قسْمَةٌ ضِيزَى إنْ هِيَ أسْماءٌ سمّيْتُموها أنْتُم وآباؤُكم ما أنْزل الله بها من سُلْطان..}(النجم : 18- 23). وبين الثناء على الغرانيق العُلاَ المُقْحمة وسط القوارع الربّانية لمن يفترون على الله تعالى الكذب، ويخَرِّقُون له الولادة، أي يجعلونه سبحانه وتعالى كالبشر يتزوج ويلد، وماذا يلد؟؟ يلد البنات فقط، مع أنهم هم يحبون لأنفسهم الذكور، فما هذه القسمة؟؟ وما حجتهم على هذا الاعتقاد؟؟ ومن أخبرهم بأن البنات أو الإناث أحط من الذّكور؟؟ وهل الهَوَى الذي أمْلَي عليهم هذه المفتريات يصلحُ أن يكون مرجعاً مُبَرّأً من العيب والنقص؟؟… فكيف يتناسب إقحام فرية الغرانيق وسط الضربات الموجعة والمُهدِّمة للمعتقد الخرافي الجاهلي المتداعي؟؟
3- الوجه الثالث : من حيث اللغة، أشار الإمام محمد عبده إلى حجة لغوية تدل على افتعال القصة واختلاقها، ذلك أن وصف العرب لآلهتهم بـ”الغرانيق” لم يرِدْ لا في نظْمِهم، ولا في خُطبهم، ولم يُنقل عن أحَدٍ أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم إلا ما جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي من غير سند، ولا معروف بطريق صحيح. أما الذي تعرفه اللغة فهو : أن الغُرْنوق، والغِرْنوق، والغُرنيق والغِرْنيق… اسم لطائر مائي أسودَ أو أبيض. ومن معانيه : الشاب الأبيض الجميل -انظر القاموس مادة >غرنوق<- ولا شيء من معانيه اللغوية يلائم معنى : الإلهية، والأصنام حتى يطلق عليهما في فصيح الكلام.
4- الوجه الرابع : من حيث صِدْقُ صاحِب الرسالة المشهود له به قَبْل الرسالة من كل الناس حتى من أعدائه فكيف يُصَدِّق إنسان أن الرجل المعروف بالصدق في صِلاته بالناس ومعاملاته لهم يكذب على ربه ويقول عليه مالم يُوحِ به إليه؟؟ هذا مستحيل، ولماذا يكذب على ربه؟؟ ليهدم أساس الدين الذي بُعث به. هذا غاية المحال!!
5- الوجه الخامس : من حيث العصمة، الواجبة عقديّاً لجميع الأنبياء والرسل : فكيف يكون الله تعالى عصم نبيه قَبْل البعثة من تصرُّفات بعْضُها أكثرُ ما يقال فيه أنه خرْمٌ للمروءة وليس فُحشا بيّناً كعَدَم رفْع الإزار ووضعه على الرقبة أثناء نقل الحجارة لبناء الكعبة، فكل الناس كان يفعل ذلك لتفادي الدّبْر والجُرْح الذي تحدِثه الحجارة إذا لامست الجلْد بدون حاجز ووقاية، فلا بأس بفِعْل ذلك مالم تُكْشف العَوْرة، ولكن الله عز وجل منع رسوله من ذلك، فكيف يمنعه من الشيء البسيط الذي لا أثر كبير له لا على العقيدة، ولا على الخلق، ولا على العرض والشرف، ولا يمنعُه من قول شيء ينقض الرسالة من الأساس، خصوصا وأن الله تعالى يهدِّدُه بأشد أنواع العقوبات إذا هو تجرّأ على الله تعالى وقال عليه ما لم يُقَل له، وهذا التهديد نفسه هو شهادة من الله تعالى قاطعة على صِدقه فيما يُبلغه للناس عن الله عز وجل يقول تعالى : {ولو تَقَوّل علَىْنا بعض الأقَاويل لأخَذْنا منه باليَمِين ثم لقَطَعْنا منه الْوَتِين فما مِنْكم من أحدٍ عنه حاجِزِين}(الحاقة : 47).
6- الوجه السادس : مُصادَمة القصة للسنة الربانية المتمثّلة في حفظ الله تعالى لعباده من كل سلطان لأحد عليهم، إنسا كان أم جنا، شيطاناً كان أم هوَى. قال تعالى للشيطان المسلّط -بإذن الله تعالى- على كل الغافلين عن ذكر الله عز وجلوشرعه وهداه : {إنّ عِبَادِي ليْس لكَ علَيْهِم سُلطان إلاّ مـــن اتّبَعَك من الغَاوِين}(الحجر : 42) وقال تعالى : {إنّه لَيْس له سُلْطان على الذِين آمَنُوا وعلى ربِّهم يتوكّلون}(النحل : 99).
ويؤيد هذه السنة قول الله تعالى {وإنْ كَادُوا ليَفْتِنُونك عن الذِي أوْحَىْنا إِلَىْك لتَفْتَري عَلَىْنا غَيْره وإذاً لاَتّخَذُوك خلِيلاً ولوْلا أن ثبّتْناك لقد كِدْت تركَنُ إِلَىْهم شيْئاً قَلِيلا إذاً لأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْف المماتِ ثمّ لا تَجِد لك عليْنا نَصِيراً}(الإسراء : 72- 75) فالسنة الربانية ثابتة : حاولوا فتنته للافتراء على الله تعالى فثبّته الله تعالى، أرادوا أن يجعلوه خليلا لهم يسايرهم في أهوائهم فثبّته الله تعالى وجعَلَهُ خليلا له.
ربّما مرّ خاطرِ التفكير في الوسائل المقرّبة للقوم في نفس الرسول من أجل هدايتهم -لا من أجل مجاراتهم- فيما لاضرر فيه على الدين، وإنما هو من قبيل الاجتهادات الدعوية فثبّته الله تعالى وآنسه، وصرفه عن التفكير أصلا في انتهاج خطة التقارب مع قوم غُفْل بُكْم صُمٍّ عُمْي لا يعقلون ولا يبصرون ولا يسمعون، كتب الله عليهم -ي علمه الأزلي- الشقاء الأبدي لحسدهم، وغلبة هواهم على عقواهم، فلا فائدة تُرْجى -في علم الله المحيط لا في علم محمد الدّاعي المجتهد- من هؤلاء مهما كان التزيين للدّعوة، لأنهم لا ينظرون للدّعوة إلا بعَيْن الخائف على مصلحته الدنيوية.
ويؤيد هذه السنة أيضا قول الله تعالى : {وما أرْسَلْنا مِن قَبْلك من رسُول ولا نَبِيئ إلاّ إذا تمَنَّى ألْقَى الشّيْطَانُ في أمْنِيَّتِه فيَنْسَخُ اللّه ما يُلْقِي الشّيطان ثم يُحْكِم الله آياتِه واللّه عَلِيم حَكِيم ليَجْعَل ما يُلْقِي الشّيطانُ فِتْنة للذِين في قُلُوبِهم مرضٌ والقَاسِيّة قلُوبُهم وإنّ الظّالِمِين لَفِي شِقَاقٍ بعِيد}(الحج : 50- 51).
للدكتور محمد أبو شهبة كلام وجيه في تفسير هذه الآيات قال فيه :
>إن للآية تفسيرين :
الأول : أن التمني المذكور في الآية المراد به تشَهِّي حصول المرغوب فيه للمرء، ومن هذا المعنى >الأمنيّة< وما من نبيء أو رسول إلا وغاية مقصوده، وجلُّ أمانيه أن يومِن قوْمُه وكان نبينا من ذلك في المقام الأعلى، قال تعالى : {فلعَلَّك باخِعٌ نَفْسَك على آثارِهم إنْ لمْ يُومِنُوا بِهذاَ الحديث أسفاً}(الكهف : 6) {فلا تَذْهَب نفْسُك عليْهِم حسراتٍ}(فاطر : 8).
وعلى هذا يكون معنى الآية : وما أرسلنا من قبلك رسولا إلا إذا تمنّى هداية قومه ألقَى الشيطان في سبيل أمنيّته العقبات، ووسوس في صدور الناس، فثاروا في وجهه، وجادلوه حينا وحاربوه أحيانا، حتى إذا ما أراد الله هدايتهم أزال تلك الوساوس ووفقهم لإدراك الحق وإجابة الداعي، وبذلك ينسخ الله ما يلقي الشيطان من الشبهات والعقبات، ويُحكم آياته بنصر الحق وأهله على الباطل وحزبه، وينشئ من ضعف أنصاره قوة، وتكونُ كلمة الله هي العليا، ليجعل ما يُلقي الشيطان في سبيل دعوات الأنبياء فتنة لضعفاء الإيمان ومرضى النفوس وقساة القلوب الذين لا يعتبرون ولا يتعظون وهم المجاهرون بالكفر، وليعلم العلماء بالله أن ما جاء به الرسل هو الحقّ من ربهم فتُخْبت له قلوبهم.
الثاني : أن المراد بالتمَنّي القراءة -إذا تمنى : إذا قرأ وتلا عليهم أمر الله- ولكنّ الإلقاء ليْس بالمعنى الذي أراده المبطلون مما رووْه، وهو إجْراءُ الشيطان الباطل على لسان النبي، وإنما الإلقاء بمعنى إلْقاء الأباطيل والشّبه فيما يتلوه عليهم النبي مما يحتمله الكلام، ولا يكون مراداً للمتكلم، أولا يحْتمِله، ولكن يدّعي أن ذلك يؤدي إليها، وذلك من شأن العاجزين الذين دأْبُهم محاربة الحق يتبعون الشبهة ويسعون وراء الرّيبة.
ونسبة الإلقاء للشيطان على هذا بمعنى أنه المتَسبِّب والمُلْقي للشبهات في نفوس أتباعه، ويكون المعنى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيئ إلا إذا حدّث قومه عن ربه، أوتلا عليهم وحيا أنزله الله لهدايتهم.. قام في وجهه مشاغبون يتقولون عليه ما لم يقُلْه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يزال المرسلون يجاهدون في سبيل الحق حتى ينتصر، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من شُبه، ويُثبت الحق، وقد وضع الله هذه السّنة في الخلق ليتميز الخبيث من الطيب<(2).
ولأبي بكر بن العربي كلام جيد في إبطال القصة، فانظره في كتابه >أحكام القرآن< من ص 1287 إلى 1291 في المجلد الثالث.
مـسـتـفـادات
1) معرفة مقدار الجُهد الذي ينبغي أن يُبْذل لتنظيف تراثنا من الخرافات والمفتريات التي لا يَليق بأن تخطها أيدي علماء ومفسرين مقدّرين محترمين لولا الغفلة والسذاجة وغلبة الدسائس اليهودية والاستشراقية على الأفكار والمخطوطات التي عبث بها الأعداء في غفلة عن الرقابة العلمية الإسلامية الصحيحة.
2) معرفة مقدار الحفظ الرباني لكتابه الكريم -القرآن العظيم- حيث حاول الأعداء قديما وحديثا إقحام جملة فيها السّمّ الزؤام، وفيها التهديم الكامل لأساس الدين وأساس الرسالة فما أفلحوا.
3) تربية الذوق الإيماني الذي يرفض من تلقاء نفسه الدّخيل المدسوس المزيّف، فعلى المناعة الإيمانية المعوّل في قطع رؤوس الشياطين.
4) معرفة حجم التآمر على هذا الإسلام في أصوله : كتابا، وسنة، ونبوة، وخلقا، لتمريغ قدْسيّته في التراب، ويأبى الله إلا أن يرفع هَامَة مرجعيته فوق السحاب، لقد كتب بعض الحمقى المهووسين حديثاً >الآيات الشيطانية< وهلّل له حُماتُه، وأغْدقوا، وأكرموا. واقتدت به حمقاء مهووسة فحذَتْ حذْوه، واستقبلتها المحافل الشيطانية بالهدايا والتكريمات.. فماذا كان؟؟ بقي القرآن هو القرآن بآياته النورانية، وبقيت النبوة هي النبوة بطهرها وسموها وقدسيتها، والبقية تأتي، ولكن الله غالب على أمره وإن كان أكثر الناس لا يعلمون.
5) معرفة السنن الربانية في حفظ العباد المخلصين الصادقين من كل كيد ومكر دبَّره من كان في أي زمان كان.
6) غرس الوعي في النفوس المومنة حتى لا تستجيب لأدنى إشاعة مُرجفة تُربك الصفوف، وتفسد النفوس.
7) يتلخص مما سبق أن إشاعة إسلام أهل مكة كان -فيما يظهر- مكيدة قرشية لإرجاع المسلمين للتعذيب، والمكايد السياسية والإعلامية من أكبر التحديات التي تواجه الإسلام قديما وحديثا.
أ. المفضل الفلواتي
—-
1- صحيح البخاري -كتاب التفسير- باب سورة النجم، انظر السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة 366/1- 367.
2- الغرانيق، السيرة النبوية لأبي شهبة المرجع السابق 373/1، 374، ولقد كان هذا التفسير حكيما، لأنه ابتعد عما سقط فيه الكثير من المفسرين من أن الإلقاء معناه : أن الشيطان ألْقَي في آذان وأسماع المشركين -أثناء سكوت الرسول عن القراءة- ما يريد أن يلقيه فيها من الباطل، توهيما للناس المشركين أن الرسول قال ذلك. هذا التأويل الذي ينفي القصة عن الرسول ويُلصقها بالشيطان ينقصها الدّليل النقلي -كما يقول الألباني رحمه الله تعالى فلا دليل من النقل على أن المشركين هم الذين اختلقوا هذه القصة -بناء على التلقي من الشيطان- وحاولوا نشرها. قال الألباني : وما المانع أن تكون هذه الفرية حدثَت من بعْد؟ وهذا هو الأقرب، لأنها لم تُرْوَ بسند معتبر عن صحابي، بل كل طرقها مرسلة. انظر هامش فقه السيرة للغزالي ص 118، وكتابه “نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق”.