ذ. محمد عبد الحكيم الخيال
إن حاجاتنا إلى اجتياز مشكلات أمتنا الإسلامية تفككها وضعفها وهوانها على نفسها وعلى أعدائها لا تتحقق إلا في حدود ما يكون لنا من إخلاص وهمة صادقة في بعث الفاعلية القرآنية بالنفوس مع ما نملكه من وسائل وأساليب منهجية للتسامي الروحي في الوعي الإنساني.
هذا التسامي هوالذي يحول الإنسان -وهوقاعدة أي نهضة- إلى أمر صارم للعمل، ويستثير كوامنه ويحفزه إلى البذل والفداء.
بهذا نكون قد سلكنا الطريق القويم إلى قيام المجتمع المسلم من جديد ليستأنف رسالته في الحياة..
إن أي سياسة تربوية لا تعمل على تغيير ما بالنفس، وحفزها للتفوق على ذاتها، وانبعاثها وتزويدها بقيمتها الإيجابية. وتخليصها من أهوائها وكل ما ران عليها من ركام الجاهلية والإخلاد إلى الطين. هي سياسة لا تريد أن تجتاز بهذه الأمة صعوباتها ومشكلاتها.
إن عجز العالم الإسلامي الحديث يكمن في تكوين الإنسان المسلم نفسه الذي يعاني من شلل أخلاقي واجتماعي وفكري، هذا العجز تتلمس أصوله في نفس هذا الإنسان.
- فكيف تنبعث هذه النفس؟
- كيف تستأنف الحركة من السكون وبلادة الحس؟
- كيف يعود إليها الروح فتدب فيها الحياة من جديد؟
فإذا لامست معرفة الله قلب إنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة أسر وأفراد..
وعلى هذا فلا بد للمسلم المعاصر من نقلة، كالنقلة التي كان ينتقل بها الإنسان في عصر البعثة من الجاهلية إلى الإسلام بتأثير الآية القرآنية في النفس.
لابد أن يعود تأثير الآية القرآنية بذات الشروط التي تجاوبت بها نفس المسلم الأول فأشرقت على مجتمع مكة الممزق فتم التآخي بين العبد بلال وأبي بكر السيد وأصبح لا يحول بين روحيمها مع نور الله حائل.
لقد كان المسلم الأول يستمع إلى الآية القرآنية كوحي موحى وخطاب مباشر -لا كنص مكتوب. يملي عليه سلوكه الجديد ويدفعه إلى العمل بقوة لا تقاوم.
فإن جبريل حين ينزل من السماء لا ينزل إلا لأمر جلل..
إننا نحتاج إلى انبثاق جديد للكلام الإلهي الحي يهز الضمائر هزا عنيفا..
إننا نحتاج إلى نور القرآن يأتينا من السماء مباشرة ينير الطريق ويبدد ظلام النفوس، ويقود إلى الحق لنخرج من متاهة الأهواء وضلال الفكر العفنة والمناهج الخاسرة.
إننا نحتاج إلى روح القرآن يفجر الطاقة ويمنح الإرادة قوة وثباتا …
لقد أدرك الاستعمار وكل عدويطمع فينا أن القرآن هوسر قوتنا ودافعنا الأساسي للجهاد، والمهدد الحقيقي لوجوده في بلادنا واستغلاله لنا، فهذا هو “اللورد جلادستون” يقف بكل الأحقاد التاريخية للصليبية في مجلس العموم البريطاني يشير إلى مصحف بيده ويصيح : ما دام هذا القرآن موجودا فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان.
ولم يهدأ للصليبية بال حتى هجرنا القرآن تماما وتحاكمنا إلى شرائع الكفر، وكان أخطر ما أفلح فيه هؤلاء الأعداء، هوهذا الجيل من بني جلدتنا الذي تربى في بلاد الغرب ومعاهده، فنهل من علمه وتشبع بثقافته، ثم عاد ومعه كل السلطات والإمكانيات ليوجه الفكر والثقافة، ويطمس الروح ويمسخ الحياة، ويضرب العقيدة، ويحول بيننا وبين نور القرآن ومناهجه ومنابع القوة فيه.
وساعد حال المسلمين على نجاح الخطة الاستعمارية، فمازال سواد المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه للقبور والموت -وهوكتاب الحياة- يكتفون بظاهر تلاوته وحلاوة نغمته- وهوكتاب العمل والجهاد- ويستخدمونه للتسول وهوكتاب العزة والكرامة..
كما استخدموه في التمائم وتحضير الأرواح والجان، وهوكتاب العلم والهدى والنور?!
منهج دراسة القرآن اليوم…
هذا وما زال الكثير من أهل العلم والبحث لا ينظرون إليه إلا من ناحيتين: ناحية المعاني وناحية الألفاظ، ثم يتشعبون شعبا ويتفرقون فرقا!!
- فالأدباء ينظرون في جمال المعاني، ورصانة العبارات، وإعجاز الأساليب البيانية، ويجهدون أنفسهم في تعرف وجوه إعجازه … هل هومعجز بألفاظه وتراكيبه، أومعجز بكليهما؟
- والمتكلمون: نظروا في القرآن ومتشابهه فابتدعوا من المشكلات من مثل ما يسمى بمشكلة خلق القرآن وثار الجدل، هل القرآن قديم بمعانيه وألفاظه، أوهوقديم بمعانيه دون ألفاظه إلى آخر ما هنالك من خلافات لا تورث إلا ضعف العقيدة واتساع هوة الخلاف بين المسلمين…
هؤلاء جميعا ومن سار في دربهم من المحدثين لا يرون في القرآن غير ناحيتي الألفاظ والمعاني فقضوا على مرحلة أساسية للبعث والتطور: هي المرحلة الروحية التي تتجاوب مع تحول الفرد والتحول الأول للمجتمع، وبذلك فقدوا بهذا المنهج كل نسمة روحية واقتصر عملهم على إعداد طلاب علم وفلسفة مجادلين لا جنود عقيدة مجاهدين.
إن الله تبارك وتعالى عندما يقول: {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى : 52).
لا يريد من هذه الآيات إلا أن تلمس القلوب وتصبح قيمة حية ووسيلة فاعلة لتحويل الإنسان.
وهكذا القرآن كله، يجب أن نتلقاه على أنه روح لنحيا به وتدب فينا من جديد كل أحاسيس الأمة الحية، وليس ألفاظا ومعاني فقط..
إن ميدان الكشف عن الحقائق اللغوية والكلامية يحصر الحقيقة القرآنية في الإطار الثقافي البحث الذي لا يعبر عن صلة نظرية بين الحياة والعلم، لا تدفع إلى تغير أوتحول جذري للإنسان والمجتمع.
إن الاهتمام بناحية الروح في القرآن، يجب أن يأخذ المكانة الأولى في قلوبنا وعقولنا، وعلى الذين يبحثون في إعجاز القرآن أن يتلمسوا هذا الروح قبل كل شيء، ثم يطلبوا ما في الألفاظ والمعاني من قوة وجمال.
فالإعجاز القرآني أظهر ما يكون في بث الروح الذي تحيا به الأبدان، وينهض به شأن الكلام الإلهي في النفوس.
فحين يقول الله تبارك وتعالى إنه ينزل الماء على الأرض فيحييها وتنبت من كل زوج بهيج. لا يريد لفت أنظارنا إلى دقائق حكمته وقدرته وجليل صنعه فقط، ولا إيراد الدليل على إمكان البعث فحسب.
إنما يريد إلى جانب ذلك تنبيه المؤمن إلى وجوب إحياء خصائص الروح فيه بمطالعة صفاته تعالى في خلقه من خلال كتابه المنظور (الكون)، ومن بين كتابه المقروء (القرآن).
ومنه قوله تعالى:{ألم يان للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، اعلموا أن الله يحي الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}(الحديد : 16- 17).
قوة القلوب وما وراءها..
إنه تحفيز واستبطاء وتحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن دون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين تخشع للحق.
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج، كالفسق والخروج الذي انتهى إليه اليهود والنصارى بطول الأمد عليهم.
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان وهويشف ويشرق ويفيض بالنور.. فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولا بأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، أن يخشع لذكر الله. فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار… وكذلك القلوب حين يشاء الله.
وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، يمدها بالغذاء والدفء، فالمؤمن المخاطب بالقرآن مطالب بالانبعاث إلى فضائل الحق، وعليه أن يحيي نفسه وأن يستنبت في بشريته كيانا من صفات الحق وفضائل الخير.
فمن هداه الله إلى ذلك وأعانه عليه بإخلاصه فهوالبشر الحي.
ولا معنى للحياة كما يذكرها القرآن إلا هذا.
أما من استغنى وأصم أذنيه ومر كبهيمة الأنعام لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، فهوالميت.. وإن أثبتته سجلات الإحصاء من الأحياء، وليس لموت النفوس معنى إلا هذا.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتدرون من ميت القلب، الذي قيل فيه:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
قالوا : ومن هو؟ قال : الذي لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا…
وشتان بين من أحياه الله بعد جهله وضلاله بالهدى وجعل له نورا يمشي به في الطريق القويم الواضح، وبين ذلك الذي يخبط في تيه الظلمات لا يستطيع أن يخرج منها.
{أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}( الأنعام :122).
الإيمان… والإنسان الجديد…
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين وقبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف.
كانت قلوبهم مواتا، وكانت أرواحهم ظلاما، فإذا بقلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز.
وإذا بأرواحهم يشرق فيها النور، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للعالمين.
وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد..الإنسان المتحرر المستنير، الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد…
لقد هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون رضوان الله عليهم إلى إحياء موات قلوبهم واستنبات ما شاء الله من الفضائل في أرض بشريتهم.
وكان مددهم في ذلك كتاب الله وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد وصف الله ذلك وضرب المثل لهم في التوراة والانجيل {كزرع أخرج شطأه فآرزه فاستغلظ فاستوى على سوقه}(الفتح : 29).
ولكل زرع ثمر، فما ثمر هذا الزرع الذي نحيا به ويحيا فينا؟..
ثمره: الشجاعة في الحق أينما كان ، والمجاهدة للباطل وأهله حيثما وجدوا.
أي أن الغاية التي ينتهي إليها جهد المؤمن من تربية نفسه بالقرآن أن يستنبت فيها الجندي المجاهد الذي تملأ الشجاعة كل أقطار نفسه.
واقرأ يا أخي معنا قوله تعالى في ثمر هذا الزرع المبارك {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع}.
وليس أبلغ في وصف الجبن وتفاهة صاحبه من ذلك الهلع والفزع التوجس الذي يصور له أنه المقصود بالشر من كل صيحة ومن كل صوت ومن كل هاتف.
وليس للهزيمة التي لحقت بدول العالم الإسلامي الحديث تفسيرا غير هذا.
فإذا كانت خصائص الجندية والمجاهدة هي الثمرة التي ينتهي إليها لتصح الحياة في كيان الإنسان، فإن لهذا الزرع الزكي النضر فضائل أخرى، وثمارا نضرت وجه المجتمع المسلم الأول:
- أقام الأصحاب الكرام سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها، ويشتدون على الكفار فيها، يتراحمون ويلينون لإخوانهم فيها، قد تجردوا من الأنانية والهوى، ومن الانفعال والغضب لغير الله… فاستحقوا أن يكون وصفهم في السماء {أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
- كانت العبادة، هي حالتهم الأصيلة ترى في هيئة الركوع والسجود.
- لا شيء عندهم وراء ابتغاء فضل الله ورضوانه يتطلعون إليه وينشغلون به.
- سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والتواضع النبيل حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء من أثر الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها.
وهكذا يثبت الله صفة هذا الزرع الزكي في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبقى أنموذجا للأجيال تحاول أن تحققها لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات، ولتستوي نفوسها على مثالها.
حين نقرأ القرآن!
إن الحقيقة التي لا مراء فيها: أن المسلمين على اختلاف أشخاصهم ومنازلهم، وعلى اختلاف بيئاتهم التي يعيشون فيها، وبرغم تمزقهم وضياعهم وهوانهم، ينظوون على استعداد هائل للبعث والنهوض، ولكنهم يحتاجون إلى الروح الباعث المنهض..
هذا الروح الباعث المنهض هوالكفيل بتحويل هذه الأمة من حال إلى حال .. وليس غير هذا القرآن الذي أنزله الله روحا قوية تقتحم الأسوار الكاذبة إلى قرارة النفس ويشعل في هذه الأعمال جذوة الحياة، ويوقد في هذه الأعمال سراج الطريق، ويقرر في هذا النور وحدة حقائق الحياة وتكاليف الطريق: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس}.
وقد سبق أن كشفنا عن حقيقة الإعجاز الذي نطلبه لإحياء ملكات المسلم المعاصر ومشاعره، والتماس آثار الروح الإلهي فيه..
فعلينا أن نتلقى القرآن على أنه روح، وللروح آثارها، ومن أثارها: الحياة والنمو، والقوة والسمع والبصر: {يأيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}(الأنفال :24).
فالقرآن حياة القلوب والأرواح، وتنموبه وتقوى، وتسمع وتبصر.
فعلينا أن نتلمس هذه الروح، وأن نتجه الوجهة الخالصة لله لإيجاد الصلة بين روح القرآن وبين قلوبنا، حين تسري تياراته وإشراقاته في كياننا كله..
ويصبح من اللازم أن نزيل الفوارق والحجب التي تفصل بين قلوبنا وبين القرآن
فإذا زالت وصار القلب أمام القرآن وجها لوجه، وأحسسنا بالحياة والقوة والنور والخشية والحنان يملأ وجودنا، وآيات قلائل من كتاب الله كفيلة بهذا لوأحسسنا الاتصال بها.
فإن التحقيق بمعنى هذه الآيات… سلبا وإيجابا، وعملا واعتقادا والتزاما بتكاليفها في غير تهاون ولا رخاوة، مع مخالطة روحها لخفايا القلب وحناياه، يحيي الإنسان ظاهرا وباطنا، ويجدده وينيره.
فالقرآن حبل الله المتين، كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : طرفه بيد الله وطرفه الآخر بيد الناس فأي جزء أخذناه منه بجد وقوة، سرت روحه إلى القلوب فارتجفت به وانتفضت بالحياة {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}(الزمر :23).
ولعل أحدنا يقول: وما فائدة القرآن كله إذن، ما دامت آيات قلائل منه كافية لإحياء القلوب؟ ولمَ لم يكتف الله سبحانه وتعالى ببضع آيات؟!
وتزول هذه الشبهة، إذا علمنا أن للقرآن مهمة بعد إحياء القلوب، هي وضع مناهج العمل الذي تنتظم به الحياة كذلك،
حتى لا يضل صاحبها عملا واعتقادا أثناء سيره إلى الله، ألا ترى يا أخي أن الله عز وجل حين أحيا جسم الإنسان بما بثه فيه من أسرار الروح لم يتركه سدى بل خلق له العقل الذي ينظم له هذه الحياة ويدبر له أمره، بما يدرك من صنوف الضرر…
وإذا كان روح القرآن به تحيا القلوب، فإن عقل هذه الحياة الذي يوجهها إلى الله على بصيرة، هوالأحكام الشرعية.
ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : >فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد<.
وهذه الحياة كما ذكرنا يمكن أن تحدث ببضع آيات بما فيها من روح لا دخل لها بالأحجام والمساحات، ولا بطول الكلام وقصره.
أما الأحكام فإن الله عز وجل يعلم من طبيعة تكويننا أن عقولنا لا تفقهها إلا وهي متفرقة في مواضيع شتى، وفي أزمان مختلفة…
ولوكانت طبيعة العقول كطبيعة القلوب، في تقبلها للحقائق جملة واحدة في لحظة واحدة كلمح البصر أوأقرب، لساق الله لنا الأحكام في آية واحدة ولكان للأحكام شأن لا نعرفه غير هذا الشأن الذي نعرفه.
ولكن الله سبحانه يجري كل شيء على سنته التي فطره عليها، والله عليم حكيم.
فليس المعول عليه في إحياء القلوب مقدار ما نقرأ أونسمع من القرآن، وإنما هوكيف نتلوأونستمع إلى القرآن.
لكي تحيي قلبك بالقرآن
فماهي الأسباب والشروط التي يراعى توفرها لمن يريد أن يحيي نفسه وقلبه بروح القرآن؟
1) التلاوة أوالاستماع في خلوة هادئة ولاسيما خلوات الليل، حيث يشف القلب وتنكشف أغطية النفس: {وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا}(الإسراء : 78).
والتأمل والتدبر والوقوف على كل عبرة ومعنى. {أفلا يتدبرون القرآن…}(النساء : 82) تدبرا يحقق العيش به في حقائقه الكبيرة صباح مساء
يقول خالد بن معدان: وما من عبد إلا وله أربع أعين : عينان في وجهه يبصر بهما أمور الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمور الأخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب..
وحصيلة هذا التأمل والتدبر تنزل في ضمير الإنسان فتلتقي بالروح العلوي فيه ، فإذا به يتلقى آيات القرآن تلقي الأرض الطيبة لو أرادت الغيث المبارك، فتثمر ما شاء الله من مبادئ وقيم وصفات، أي تنشأ بذلك للإنسان حياة روحية.
وقيام تلك الحياة في ضمير الإنسان تقترن -ولابد- بوجدان قوي أصيل، يحب قيم الحق والخير ويراها بهجة نفسه ويكره الباطل والشر.
وكل ما يمت إليهما بصلة على ما في قوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}(الحجرات : 7).
ويتسامى الوجدان حتى يصبح لا يطيق أن يستعلن الباطل، ولا أن تنتهك لحق حرمة.
2) سل نفسك قبل تلاوة القرآن أوالاستماع إليه: هل هواك مع الله أم مع الدنيا؟
… واعلم يا أخي أن كل هوى من الأهواء الدنيوية، إنما هوحجاب كثيف بينك وبين الله وبين قلبك وبين القرآن.
فحب المال إلى حد الفتنة حجاب. وحب البنين إلى درجة الفتنة حجاب، واشتغال القلب بشواغل الدنيا حتى تصبح كل همه حجاب أوحجب، وإعجاب المرء بنفسه أوبجاهه أوبذكائه أوصلاحه أوقوته من المواقع الكثيفة الثقيلة.
وميل الطبع إلى شيء مما حرم الله ، وبغض الخير لمنافسيه، وحسده وحقده، ورغبته في وقوع الأذى والمصيبة بمن يكره من المسلمين.. هذا ونحوه أكنة يبتلى بها القلب فتحول دون وصول الروح القرآني إليه. فعليك يا أخي أن تصارح نفسك: هل بينك وبين القرآن حجاب من هذه الحجب أم لا؟ والمقياس أمامك، فأنت وشأنك {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة} {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا}(الاسراء :45).
يا أخي حياة القلب هي كل شيء وأنت طالب حياة، فلا تبخل بأي جهد يجعلك من الأحياء، مهما شق عليك، ونحن في رسالة لا ينهض بحقها إلا الزكي، وفي رحلة إلى الدار الأخرة حيث لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، واحذر الهوى، فإنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه، وجرد قلبك من كل ألوانه، وليكون قلبك مفتوحا للتلقي غير محجوب، فحينئذ تدرك وتحس وتحب وتبكي وتخشع وترتقي في مدارج الإنسانية العليا.
3) وعليك يا أخي وأنت مقبل على الدخول في رحاب القرآن أن تستحضر عبوديتك لله.. استحضرها حقيقة لا مجازا.. استحضرها شعورا قويا، يريك ذلة العبد وخضوعه أمام سيده الكبير المتعال، ونحن جد خبيرين بحالة الهول والاضطراب التي تعتري المرء وهو ماثل بين يدي رئيسه، ونعرف كيف أن كيان هذا المرؤوس يتركز في أذنيه يسمع بهما ما سيقال له، ويتركز في قلبه ليتلقف ما يلقى عليه، فإذا عينه وملامح وجهه وحركات رأسه تؤذن كلها بالطاعة وتتلقى ما يقال لها أوتؤمر به، وبمزيد من القبول والارتياح.. كل هذا ليشعر المرؤوس رئيسه أنه يتحرى مواضع رضاه، وأن لا إرادة له إلا فيما يريد رئيسه.
العبودية : هذه الحالة التي يدخل بها العبد على عبد مثله، فماذا يجب أن تكون عليه حاله التي يدخل بها على مالكه ومولاه الكبير المتعال.. إنه لو عرف أنه يدخل على من بيده الحياة ويملك الرزق ولوعرف أين يكون الخوف، وتمثلت في حسه حقيقة الرهبة والخشية، لتطايرت من فوقه الحجب، لرأى نفسه أمام عظمة عرش الله عز وجل فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده آمرا وناهيا. باعثا لرسله، منزلا لكتبه، معبودا مطاعا لا شريك له، لا مثيل له، ولا عدل له، ليس لأحد معه من الأمر شيء، بل الأمر كله له، ليشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير فلا حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره، فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه سبحانه بنفسه، فهوسبحانه القائم بنفسه، المقيم لكل ما سواه.
عندئد يجد نفسه لا شيء داخل في سلطان الله يفر منه إليه، ويتركز وجوده في أذنه وقلبه فيغدولأمر الله ونهيه في قرارة نفسه لا يدانيه وقع كلام آخر، وتلك حالة يمكن كسبها بالصدق والمجاهدة، وهي بلا شك موصل جيد لروح القرآن إلى قلب الإنسان.
4) استحضار تلك العبودية بصفة جدية حقيقية يورث الإنسان نهضة إلى أمر مولاه ومسارعة إلى إنفاذ ما كلفه به وألقاه عليه في القرآن..
إن تنفيذ الأمر ، إن هوإلا تفسير عملي له يكشف خفاياه، يكسب صاحبه فقها في كتاب الله، لا يناله النظريون الواقفون عند حدود التلاوة.
ذاك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان أفاق لم تكن لتفتح له أبدا وهوقاعد آمن ساكن، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة.
ويبلغ هوبنفسه بمشاعره وتصوراته ومعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته ما لم يكن ليبلغه أبدا دون هذه التجربة الشاقة العسيرة وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى : {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض} وأول ما تفسد : فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح وتسترخي معه الهمة، ويتلفها الرخاء والطرواة، ثم تأسن الحياة كلها بالركود ، أوبالحركة في مجال الشهوات وحدها، كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء!
فهذه كذلك من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ولقد جعل صلاح هذه الفطرة في المجاهدة لإقرار منهج الله للحياة البشرية، عن طريق الجهد البشري…
وعلى ذلك ينبغي أن ينفذ الأمر الإلهي تنفيذا لتكاليف شاقة كم تقاصرت دونها الهمم فإذا راض المرء نفسه على التنفيذ وتحمل مشقة الرياضة والمجاهدة، ونهض بهذه التكاليف في غير هوادة ولا رخاوة، لوجد أثر ذلك زلزلة في دقات قلبه ونبضات عرقه وعصبه ويقظة في ملكات نفسه، ونوا في بصيرته ووعيه.
وهذا مما يزيد في تفهمنا لكتاب الله والوقوف على كثير من أسراره ومعانيه، ودون النهوض بأمر الله بحرارة النفس المتوثبة، تكون الأعصاب بليدة فاترة، وملكات النفس غافلة راكدة، ولا يصلح منها شيء لاستشراف روح القرآن.
(ü) مجلة الأمة رمضان 1402