نبوغ المرأة في حفظ القرآن عند بعض ذوي الاحتياجات الخاصة


د. محمد سعيد صمدي – مركز تكوين المعلمين و المعلمات بطنجة -

لاشك أن الأسوياء بما حباهم الخالق تعالى به من كمال الخِلقة، يتفاوتون فيما بـينهم في القدرات الثلاثة الكامنة والثاوية في كينونة الكائن البشري: القدرة المعرفية والحسحركية والوجدانية. وهذا ما يُعرف في الفكر التربوي بالفوارق الفردية عند الأفراد؛ و مراعاة ُهذه الفوارق عند كل فرد مبدأ ٌ تربويٌّ أساس في كل التعلمات والوضعيات الحياتية.

وإذا كان الأمر كذلك فإن بعض ذوي الاحتياجات الخاصة قد يتفوقون في بعض الحالات على قدرات بعض الأسوياء، على اعتبار أن الافتقاد إلى حاسة أوإلى عضو أساس من الجسم، يعوِّضُه الباري تعالى بـِـحِس فطري قوي وقدرةٍ إضافية تُغذي جانبا من جوانب القوة الذاتية عند المعاق؛ وتمنحه بذلك إحساسا وانتشاءً بالعطاء والإبداع والمواكبة والمشاركة…

وسوف نُقـَرِّب هنا حالتين أنثويَّتين استطاعتا أن تكسرا حاجزَ وإكراه الإعاقة؛ وتُحَقِّـقا  شرف حفظ كتاب الله تعالى بالكامل؛ وهو عمل بطبيعة الحال يستحق كل تنويه وإشادة، وقد أوردتهما الأستاذة حبيبة أوغانيم في كتابها الذي صدر سنة 2007 تحت عنوان “مغربيات حافظات للقرأن” :

فاطمة آيت دواء:

أ- الإعاقة الطارئة : ولدت فاطمة بمراكش سنة1967م، ولم يُكتَب لها الالتحاق بالمدرسة إلا بعد بلوغ سنها ثمان سنوات ونصف، وذلك بسبب مرض ألمَّ بها في صباها  نتيجة لخطأ طبي في وصف الدواء المناسب لحالتها المرضية، حيث كانت تعاني من ارتفاع درجة الحرارة وهو ما يسميه المغاربة بمرض”بوحمرون”. مرضٌ ووصفة طبية غير ملائمة أورثا فاطمة شللا على مستوى رجليها…

ب- قـَدَر الحفظ :  ترعرعت فاطمة في بيت فضل وصلاح، ومنذ صغرها كانت تنافس إخوتها في حفظ سورة الرحمن المقررة في السنة الخامسة ابتدائي، وزرع فيهم الأب حب القرآن وحفظه، وتذكر فاطمة أن الألم على مستوى رجليها كاد أن يحرمها من التمدرس؛ إلا أنها لن تنس جميل وفضل مدير مدرسة ابن أبي سفرة بمراكش ، الذي كان ينقلها إلى المدرسة ذهابا وإيابا على متن سيارته الخاصة، إلى أن أتمت المدرسة الابتدائية. وبعد انتقال الأسرة إلى مدينة الرباط ستواصل دراستها إلى حدود الباكالوريا(علوم رياضية)، حيث سيتدخل القدر الإلاهي مرة أخرى، وسيزداد جرح الإعاقة بألمٍ في الرأس والرجل، وستسافر إلى هولاندا للاستشفاء إلا أنها ستعود بعكازَيْها الوفيين.

وبعد العودة سيقودها حرصها ورباطة جأشها إلى الاهتداء إلى الانتساب لدار القرآن عبد الحميد احساين المجاورة لدار الحديث الحسنية بالرباط ، وهنا ستبدأ فاطمة بالحفظ المنتظم المقرون بعلم التجويد. وفي رحلة إلى بلاد سوس جنوب المغرب لزيارة الأهل والهروب من ضجيج العاصمة، ستتطوع بالقرية التي أقامت بها في الانخراط في عملية محو الأمية لنساء القرية، وهنا أيضا سيخلو لها الجو ويصفو لإتمام ما تبقى من الحفظ .

عادت إلى الرباط وانخرطت أيضا في عدة تكوينات، وشاركت في عدة مسابقات، وهي الآن بصدد التحضير للمشاركة في المسابقة الدولية للمعاقين التي تنظمها دولة الإمارات العربية كل صيف. وتعتقد أن حفظ القرآن يعطي للفرد كيفية وضع منهجية للتفكير ، ويساعده على توسيع الذاكرة ، ويمنح قدرة على تعلم العلوم المختلفة بما تمنحه نفحات الحفظ من راحة نفسية…

السعدية فقيري:

أ- حدث الإعاقة :

السعدية البنت الصغرى لتاجر بالدارالبيضاء ، ولدت سنة 1978م، فقدت البصر وهي في ربيعها الرابع، بسبب إصابتها هي أيضا بارتفاع درجة الحرارة، وتذكر أمها أن الأطباء حينها عجزوا أمام إصابتها، ولم تتم معرفة السبب إلا في مرحلة متأخرة من عمرها لتتحول السعدية من فئة المبصرين إلى فئة المكفوفين.

وتروي السعدية أنها عانت في طفولتها ألم الإقصاء والدونية بدل العناية والحماية اللازمتين…

ب- تتويج الحفظ :

بعد معاناة طويلة وحياة عادية بعيدة عن كل عمق ديني، سيُحْدِث حديث شريف تحولا في حياة السعدية،”مَن أخذ الله حبـِـيبَـتَيْهِ فصبَر، فلا جزاء له إلا الجنة”، وبعد تنشيط الحقل التوعوي الديني في مجال حفظ وتجويد القرآن الكريم ستلج السعدية حِلـَق الحفظ  بمساجد الحي القريبة؛ وستتخذ من الشريط الصوتي الوسيلة التعليمية الأنجع لتركيز وتثبيت الحفظ؛ تقول : “كانت آلة التسجيل مؤنستي ورفيقة دربي مع آيات الذكر الحكيم، ولم تتضجر مني يوما هذه الألة المسكينة مما أقدم عليه من تكرار سماع الأيات. فلو كانت أزرارها ذات إحساس لاشتكت كثرة ضغطي عليها.

في السنة التاسعة عشرة من عمرها ستدشن مشروعها سنة 1997، وسيكتمل عوده بحمد الله حفظا وتجويدا في أربع سنوات أي سنة2001م؛ وستلج بعد ذلك المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين، وستتقن به طريقة “برايل” في ظرف خمسة عشر يوما،وتتقن الحديث والتواصل باللغتين العربية الفصيحة والفرنسية، واحتلت الرتبة الأولى بالسنة الأولى باكالوريا،وحازت على عدة جوائز؛ وبروح مشرقة بالأمل تقول:”إن من لديه الرغبة والإرادة الصادقة وتمسك بالله عز وجل يصل إلى مستويات من الرفعة لم يكن يتوقعها”(تنظر التفاصيل في كتاب: مغربيات حافظات للقرآن : ص13- 36ـ مطبعة ربا نيت/الرباط/ ط1ـ 2007) .

هنيئا للحافِظتين الكريمتين المتوَّجَـتيْن، وهما نموذجان للعديدات كما للعديدين على رقعة العالم الإسلامي  ممن تحدوا الإعاقة ومخلفاتها النفسية والعضوية، و أمست الإعاقة عندهم دافعا لا مانعا، ومحفزا لا مثبطا، لا فرق لجنس الذكر على الأنثى في هذا السباق، وصدق الرسول الكريم  :>نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ<. إن رهان إدماج واندماج ذوي الاحتياجات الخاصة في التنمية البشرية رهان استعجالي يفرض انتهاج معالجة شمولية واضحة وصادقة، لا تقبل المزايدة بورقة هذه الفئة المجتمعية الفاعلة والمتفاعلة…

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>