ذ. محمد حطاني
بما أن الإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحده في عزلة تامة عن الناس، لذلك فهو بحاجة إلى مخالطتهم ومجالستهم، وهذا الاختلاط لابد أن تكون له آثار سيئة أو حسنة، حسب نوعية الجلساء والخلطاء. ومن هنا تظافرت نصوص الكتاب والسنة على الحث على اختيار الجليس الصالح، والابتعاد عن الجليس السيئ لقوله تعالى : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، وقال أيضا : {وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}، وقال النبي : >إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة<(متفق عليه).
لهذا يجدر بكل مسلم أن يجعل هذا الحديث الشريف دائما في باله وهو يخالط الناس في كل ميدان من ميادين الحياة أن يختار لصحبته ومجالسته الصالحين من الناس، ليكونوا له جلساء وزملاء وشركاء ومستشارين لأن هذا الحديث الشريف يفيد أن الجليس الصالح جميع أحوال صديقه معه خير وبركة ونفع، مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه إما بهبة أو بيع، أو أقل شيء تكون مدة جلوسك معه قرير العين، منشرح الصدر برائحة المسك، جليسك الصالح يأمرك بالخير، وينهاك عن الشر. ويسمعك العلم النافع، والقول الصادق والحكمة البالغة، ويعرفك عيوب نفسك، ويشغلك عما لايعنيك، يجهد نفسه في تعليمك وتفهيمك، وإصلاحك وتقويمك، إذا غفلت ذكرك، وإذا أهملت أو مللت بشرك وأنذرك، يحمي عِرضك في مغيبك وحضرتك، أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم، تنزل عليهم الرحمة فتشاركهم فيها.
وعليه، فإن فوائد الأصحاب الصالحين لا تعد و لاتحصى، وحسب المرء أن يعتبر بقرينه، وأن يكون على دين خليله.
أما صحبة الأشرار، فإنها السم القاطع، والبلاء الواقع، فهم يشجعون على فعل المعاصي والمنكرات، ويرغبون فيها، ويفتحون لمن جالسهم وخالطهم أبواب الشرور، ويسهلون له سبل المعاصي والمنكرات، فقرين السوء إن لم تشاركه في إساءته، أخذت بنصيب وافر من الرضا بما يصنع، والسكوت على شره فهو كنافخ الكير على الفحم الملوث، وأنت جليسه القريب منه، يحرق بدنك وثيابك، ويملأ أنفك بالروائح الكريهة، وفي مجالس الشر تقع الغيبة والنميمة والكذب والشتم، والكلام الفاحش، ويقع اللهو واللعب، وممالأة الفساق على الخوض في الباطل، فهي ضارة مضرة، من جميع الوجوه لمن صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، وإليكم واقعتين ومأساتين حصلتا بصحبة الأشرار، والانقياد إليهم :
الواقعة الأولى : ورد أن عقبة ابن أبي معيط كان يجلس مع رسول الله بمكة المكرمة ولا يؤذيه، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه يؤذونه ، وكان لابن أبي معيط خليل كافر غائب في الشام، فظنت قريش أن ابن أبي معيط قد أسلم، فلما قدم خليله من الشام وبلغه ذلك، غضب عليه غضبا شديدا، وأبى أن يكلمه حتى يؤذي النبي ، فنفذ ما طلب منه خليله الكافر، وآذى النبي فكانت عاقبته أن قتل يوم بدر كافرا، وأنزل الله فيه قوله تعالى : {يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} وهي عامة في كل من صاحب الظلمة، فأضلوه عن سبيل الله، فإنه سيندم يوم القيامة على مصاحبتهم، وعن الإعراض عن طريق الهدى الذي جاء به الرسول .
الواقعة الثانية : روى البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له يا عم : >قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله< فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي فأعاد فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي >لأستغفرن لك ما لم أنه عنك< فأنزل الله {ما كان للنبيء والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وأنزل الله في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
ففي هاتين الواقعتين التحذير الشديد من مصاحبة الأشرار، وجلساء السوء، وفي يوم القيامة يقول القرين لقرينه من هذا الصنف {يا ليت بيْني وبينك بعد المشرقين فبيس القرين} ألا فانتبهوا يا عباد الله لأنفسكم وجالسوا أهل البر والتقوى وخالطوا أهل الصلاح والاستقامة وابتعدوا وأبعدوا أولادكم عن مخالطة الأشرار، ومصاحبة الفجار، خصوصا في هذا الزمان الذي قل فيه الصالحون، وتلاطمت فيه أمواج الفتن، فإن الخطر عظيم، والمتمسك بدينه غريب بين الناس، وقد وقع ما أخبر به رسول الله بقوله : >بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل وما الغرباء يا رسول الله؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي رواية يصلحون ما أفسد الناس< اللهم اجعلنا من المصلحين، ولا تجعلنا من المُفسدين إلى يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.