الأسد.. يرحل فـي صمت (الشيخ المجاهد عبد الرحمان ربيحة يرحل إلى دار البقاء)


أخيرا… ترجل الفارس، ورحل الأسد في صمت رهيب لا يليق بأمثاله، رحل ولكن في زمان تغير فيه معنى الرجولة، وتبدل فيه مفهوم البطولة..

لقد رحل الذي لم يحن الهامة إلا لله، رحل الذي لم يطأطئ رأسه إلا للخالق…

رحل الذي لم يداهن ولم يراوغ ولم ينافق، رحل برأس مرفوع، وهمة عالية..

رحل إلى من كان يعمل ليوم الرحيل إليه..

نعم.. لقد رحل شيخنا وأستاذنا العلامة الهمام، المجاهد المقدام، الخطيب المفوه.. سيدي عبد الرحمان بن محمد ربيحة رحمه الله، رحل عن هذه الدنيا على حين  غفلة من أهلها، وجحود وعقوق من مسؤوليها!!

لو كنت -سيدي- في بلد آخر لكان لك شأن آخر، لكني أعرف أنك لم تكن في حياتك قط ترغب أن يكون لك في الدنيا شأن، وإنما كنت تطلب الآخرة!! وستكون لك بإذن الله.

يا للعار كيف يرحل هذا العلم الكبير، والمجاهد العظيم، الذي أذاق المحتل الفرنسي الظالم الغاشم طعم المرارة، وسقاه من كؤوس الحنظل في صمت رهيب، ويخرج من داره بفاس التي كانت أزقتها وأحياؤها وجدرانها تهتز فخرا به، واعتزازا ببطولاته النادرة، وبسالته الكبيرة في مواجهة الغزاة المجرمين دون أن يحفل به أحد؟

1) اسمه ونسبه :

حدثني عن ذلك بنفسه رحمه الله فقال >اسمي عبد الرحمان بن محمد ربيحة، ولدت سنة 1924 بمدينة فاس، الأصل صحراوي من تافلالت، التحقت بجامع القرويين سنة 1354 للهجرة وتخرجت بعد 15 عاما من الدراسة، وأصبحت أستاذا بالقرويين بعد تخرجي بسنتين<(1).

2) في حلقات التدريس :

كان شيخنا رحمه الله مدرسا بجامع القرويين بفاس، وأذكر أنه كان يحضر إلى الحصة قبل الوقت المحدد بربع ساعة على الأقل، ولا يقبل من أي طالب أن يتأخر عن الوقت ولو بدقيقة، فقد كان حازما صارما لا يقبل التراخي والتكاسل وكان يردد باستمرار >لا تأتوني كفلول الجيش المنكسر<.

أخذنا عنه رحمه الله ما تيسر من التوحيد والتفسير والمنطق، وكان متميزاً بالتبسيط في دروسه، وأذكر أنه كان يمثل الجنة بدار العرس والنار بالسجن في قضية فتح الأبواب وإغلاقها، وهو يفسر لنا قوله تعالى : {وسيق الذين اتقوا ربّهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتّحت أبوابها (…) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها..}.

3) الصدع بالحق :

كان شيخنا سيدي عبد الرحمان رحمه الله لا يداهن في الحق، ولا ينافق ولا يحابي أيا كان، وكان يقول الحق دون مراعاة حاكم ولا محكوم، ولا  غني ولا فقير، وكانت خطبه بجامع الأندلس -على مدى قرابة أربعة عقود- محجا لساكنة فاس، ولغيرهم، حيث كان يقصدها الناس من مدن مختلفة، لما عرف به خطيبها المفوه من قول للحق، وصدع به بدون خوف من أحد، لقد عرفته العامة والخاصة متحدثا في كل المواضيع متناولا لجميع القضايا، مجتهدا في قول الحق، لا يخاف إلا الله تعالى، أما في العيدين، فقد كان الناس يشدون الرحال إليه، فيزدحم المكان، وتمتلئ جوانبه، ويضيق المصلى بأهله، وكان هو رحمه الله أسدا في عرينه، قوالا للحق، صداعا به، مما عرضه لكثير من الاستنطاقات والتحقيقات التي لم تكن ذات قيمة بالنسبة إليه…

4) جهاده وتضحياته :

اختار شيخنا رحمه الله طريق الجهاد من بداية شبابه الأولى، ذلك أنه وقف في وجه الظهير البربري وقفة قوية جدا، وحاربه محاربة شديدة مما أدى به إلى السجن عام 1937 وهو في 13 من عمره!! ومن هنا كانت انطلاقته في ميادين الجهاد والمقاومة، ورحلته مع السجون والتعذيب..

في عام 1944 قاد -وهو لم يتجاوز ربيعه العشرين بعد- مظاهرة فاس الشهيرة، وألقي عليه القبض، فحوكم بتهمة سخيفة، لا تليق إلا بجلاديه، هي >شَفّارُ الصوف< وحكم عليه بسنتين سجنا نافذا، فلما خرج من باب المحكمة سئل عن الحكم من قبل الجماهير فقال >وفصاله في عامين< ففهم الناس أن مدة السجن عامان.

وكان لا يخرج من السجن إلا ليحرض على القتال، ويقاتل هو بنفسه المحتلين، حتى أنه أقض مضاجع الفرنسيين وأذاقهم مرارة لم يكونوا يتوقعونها، حتى إن حاكم فاس يومها >la pira< ذكر في مذكراته أنه لم يقف في وجهه أشد من الأسودين، وهو يقصد شيخنا سيدي عبد الرحمان ربيحة، والعلامة المجاهد سيدي عبد الكريم التواتي رحمه الله.

وقد كنت سألته رحمه الله عن السجون التي أدخلها وعما لقيه من عذاب على يد المحتل الفرنسي فقال : >أما السجون فهي سجون المغرب كلها، سجنت هنا بفاس -وكان عبارة عن ممر سجني- وسجنت بالرباط وبسجن دار اغبيلة بالدار البيضاء، وبقيت فيه سنتين، وبعين مومن وقضيت فيه سنتين، ومن الرباط كنا نمر دائما للمحكمة العليا، وعلى كل حال فقد قضيت أكثر من سبع سنوات داخل السجون، وكفاحنا كان في سبيل الله لا أقل ولا أكثر، لم نكن لا أنا ولا الذين كانوا يجاهدون في ذلك الوقت نريد جزاء من أحد سوى الله عز وجل.. وأما التعذيب فشيء ضروري وما تلقيناه في السجون شيء لا يقال، لأن ذلك كان من أجل الدعوة في سبيل الله فلا معنى للتحدث به سُجنا وسُجنا، وعذبنا وعذبنا، ولكن ذلك كله كان في سبيل الله عز وجل<(2).

5) أخلافه رحمه الله :

1- الشجاعة : فقد  كان لا يخاف في الله أحدا، وكان شعاره الذي لا يفارق لسانه : >لا أبالي أن أقتل مسلما< كان ذلك في زمن الاستعمار، وبعد خروج المحتلين ظل قوالا للحق، صداعا به لا يعبأ بأحد.

2- الأنفة والعفة والقناعة : فوالله لقد كان ذا أنفة قل نظيرها، عفيفا وهو محتاج، قنوعا وهو فقير.

عندما خرج المحتل الفرنسي تزاحم الناس على المناصب، وتنافسوا على حطام الدنيا، وظل هو ينظرهم من بعيد، ويحتقرهم جميعا، فلم يطلب مالا ولا جاها ولا منصبا، ولم يُعطَ شيئا من ذلك رحمه الله.

3- الزهد في الدنيا، وهذا من سابقه، فلقد احتاج الرجل احتياجا شديدا ولم يرض أن يمد يده ليطلب فلسا من أحد، وصبر على الفقر ولأواء العيش، وشظف  الزمان في الوقت الذي ملك غيره القصور الواسعة، والسيارات الفارهة والمناصب الكبيرة، والأموال الطائلة، ورخص الحافلات والسيارا.. والمناجم ومقالع الرمال…

4- الحزم والصرامة في الأمور كلها.

5- التواضع : فقد كان رحمه الله يقدر إخوانه العلماء تقديرا عظيما، كان يذكرهم جميعا بخير، ويثني عليهم ثناء عطرا، وما سمعت أنه تكلم في أحدهم يوما بسوء.

وكان يحب آل البيت ويعظمهم، وكان إذا مر أمام أحدهم وهو يدرس بالقرويين قال : هذا عالم من آل البيت!!

6- كان رحمه الله شفوقا على طلبة العلم، رحيما بهم إلى درجة عجيبة غريبة.

7- كان رحمه الله معظما لبيوت الله تعظيما خاصا، لا يقبل ولا يستسيغ أن يمد فيها أحد رجله، ويقول إن في ذلك سوء أدب مع الله عز وجل.

8- توفي والده وكانت عليه ديون كثيرة، وجاءه أصحاب الديون فكان يؤدي لكل من ادعى أن له دينا على أبيه، دون أن يطلب بينة من أحد، ودون أن يحلف أحدا.

وبالجملة، فقد كان رحمه الله ذا أخلاق عالية، وصفات حميدة مع بعض الشدة التي لم تكن أكثر من صرامة وحزم ضرورين في نجاح أي مشروع خصوصا مشروعي العلم والجهاد اللذين تبناهما.

6- وفاته رحمه الله :

مرض رحمه الله سنوات لم يحفل به فيها أحد، ولم يعتن به أحد، خلا أسرته الصغيرة، وهو الذي لو كان في بلد آخر لكان له شأن آخر، لكنه مرض في بلد يعتني مسؤولوه بالتافهين والتافهين، من الرياضيين وأصحاب هز البطون وأشباه الرجال والنساء، ثم توفي رحمه الله صبيحة يوم الأربعاء 5 رجب 1429 (2008/7/9) ودفن ظهر اليوم نفسه، دون أن تعلم فاس برحيله في صمت رهيب وغريب وكأنه نكرة مجهولة، عقابا له ولأمثاله على جهادهم ضد فرنسا والفرنسيين وأذنابهم وعملائهم.

ولا يسعني أخيرا إلا أن اختم هذه الكلمة بما كان يختم به خطبه كل جمعة حيث يقول >مولانا إياك سألنا ولإحسانك تعرضنا، وما عندك من خير الدارين طلبنا، فأقبل اللهم بوجهك الكريم علينا، ولا تخيب فيك رجاءنا، أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فارتكبنا، ولا يسعنا إلا عفوك فاعف عنا< اللهم انفعه بهذا الدعاء وانفعنا معه، آمين.

—-

1-2 – مجلة رسالة المعاهد العدد 1 ذو الحجة 1416.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>