1) ما أنزل الله تعالى في أبي لهب وزوجه المؤذيين للرسول :
فجعلت قريش حين منعه الله منها، وقام عمُّه وقومه من بني هاشم، وبني المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البَطْش به، يَهْمزونه ويستَهْزئون به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قُريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته منهم، منهم من سمّى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامَّة مَنْ ذكر الله من الكفَّار، فكان ممن سميَّ لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أمُّ جميل بنت حَرْب بن أُميَّة، حمالة الحطب، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب، لأنها كانت -فيما بلغني- تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حيث يمرّ، فأنزل الله تعالى فيهما : {تَبَّت يَدَا أبي لهب وتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الحَطَبِ في جِيدِهَا(1) حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(2)}.
قال ابن إسحاق : فذُكر لي : أنَّ أمَّ جميل : حمالة الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصدّيق، وفي يدها فِهْر من حجارة، فلما وقفتْ عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت : ىا أبا بكر : أين صاحبُك، فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربتُ بهذا الفهر(3) فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت :
مُذممّاً عَصَيْنا وأمْرَه أبَيْنا ودينه قَلَيْنَا(4)
ثم انصرفت، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تُراها رأتك؟ فقال : ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني.
قال إبن إسحاق : وكانت قريش إنما تسمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم مُذَمَّما، ثم يسبُّونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش، يسبُّون ويهجون مذمَّما، وأنا محمد(5).
2) ما كان يؤذي به أمية بن خلف رسـول الله صلى الله عليه وسلم :
كان أمية إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمَزه ولمَزه، فأنزل الله تعالى فيه : {ويْلٌ لكُلِّ هُمَزَة لُمَزَة(6)، الَّذِي جمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يحْسِبُ أنَّ مَالَهُ أخْلَدَهُ. كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَةِ. وما أدْراكَ ما الحُطَمَة، نارُ الله المُوقَدَةُ التي تطَّلَعُ على الأفئدَةِ. إنَّها عَلَيْهم مُؤصَدة في عمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
3) ما كان يؤذي به العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل فيه :
قال ابن إسحاق : كان خبَّاب بن الأرث، صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَيْنا بمكة يعمل السيوفَ، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه فقال له يا خبَّابُ أليس يزعم محمد صاحبُكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب، أو فضة، أو ثياب، أو خدم؟! قال خبَّاب : بلى قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرْجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقَّك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خبَّاب آثر عند الله مني، ولا أعظم حظّاً في ذلك. فأنزل الله تعالى فيه : {أفرَأيْتَ الَّذي كَفَر بآياتنا وقالَ لأُوتَينَّ مالاً ووَلَداً، أطَّلَعَ الغيْبَ، أمِّ اتّخَذَ عِنْد الرّحْمان عهْداً كلا سنكتب ما يَقُولُ ونمدُّ له من العَذَابِ مَدّاً، ونَرِثُهُ ما يَقُولُ، ويأتْيِنا فَرْداً}(مريم : 77- 80).
4) ما كان يؤذي به أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل فيه :
ولقي أبو جهل بن هشام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- فقال له: والله يا محمد، لتتركنَّ سب آلهتنا، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد. فأنزل الله تعالى فيه : {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ منْ دونِ اللهِ، فيَسُبُّوا اللَّه عَدْواً بغيرِ عِلْمٍ}(الأنعام : 8- 10) فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّ عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.
5) ما كان يؤذي به النضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل فيه :
والنضر بن الحارث، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذَّر فيه قُريشا ما أصاب الأمم الخاليةَ، خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رُسْتَم الشِّيد(7)، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأوَّلين، اكتتبها كما اكتَتَبْتُها. فأنزل الله فيه: {وقالوا أساطير الأوَّلينَ اكْتَتَبها فهِيَ تُمْلى عَليهِ بُكْرةً وأصِيلاً، قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرْضِ، إنَّهُ كانَ غَفُوراً رحِيماً}(الفرقان : 5- 6) ونزل فيه {إذا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنا قال أساطير الأوَّلَينَ}(القلم : 15). ونزل فيه : {ويْلٌ لكُلِّ أفَّاكٍ(8) أثيم يسْمَعُ آياتِ الله تُتْلَى عليهِ ثم يصرُّ مستكبِراً كأنْ لَمْ يسْمَعْهَا، فبشِّرْهُ بعذابٍ أليمٍ}(الجاثية : 7).
قال ابن إسحاق : وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوما -فيما بلغني- مع الوليد بن المُغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غيرُ واحدٍ من رجال قريش، فتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم : {إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ من دونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أنتُمْ لَهَا وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤلاءِ آلهَةً ما ورَدُوها، وكُلٌّ فيها خالِدُونَ، لَهُمْ فيها زَفِيرٌ وهُمْ فِيها لا يسْمَعُونَ}(الأنبياء : 98- 100).
قال ابن إسحاق : ثم قال(9) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزِّبعرى السَّهْمي حتى جلس، فقال الوليد بن المُغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصَبُ جهنَّم؛ فقال عبد الله بن الزَّبَعْرَى : أما والله لو وجدته لخَصَمْتُه(10)، فسَلُوا محمدا : أكلُّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع منْ عبده؟ فنحن نعبدُ الملائكة، واليهود تعبد عُزيرا، والنَّصارى تعبد عيسى بن مريم؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزّبعرى، ورأوا أنه قد احتجّ وخاصم. فذُكر ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ كلّ من أحبَّ أن يُعبد من دون الله فهو مع مَنْ عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرَتْهم بعبادته<. فأنزل الله تعالى عليه في ذلك : {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ منَّا الحُسْنَى، أولئك عنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يسْمَعُون حَسِيسها، وهُمْ في ما اشْتَهَتْ أنفُسُهم خَالِدون}(الأنبياء : 100، 101) : أي عيسى بن مريم، وعزيرا، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبُدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله.
ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله : {وقَالُوا اتخذ الرَّحْمن ولَداً سُبْحانهُ، بَلْ عِباد مُكْرَمُونَ. لا يسْبِقُونَهُ بالقَوْلِ وهُمْ بأمرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيديهم وما خَلْفَهُم ولا يشفعون إلا لمن ارتضَى وهم من خشْيَتِه مُشفقُون، ومنْ يَقُلْ منْهُمْ إنِّى إلَهٌ منْ دُونِهِ، فذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كذلكَ نجْزِي الظَّالمِينَ}(الأنبياء : 25، 29).
ونزل فيما ذَكر -أي ابن الزبعرى- من أمر عيسى بن مريم وأنه يُعبد من دون الله، وعَجَب الوليد ومن حَضَره -أي ابن الزبعرى- من حُجَّته وخصومته : {ولَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قوْمُكَ منْهُ يَصِدُّونَ}(الزخرف : 57) : أي يصدّون عن أمرك بذلك من قولهم(11).
ثم ذكر عيسى بن مريم فقال : {إنْ هُوَ إلاَّ عبْدٌ أنْعَمْنا عليه، وجَعَلْنَاه مَثَلاً لبنِي إسرائيلَ، ولوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنا منْكُمْ مَلائِكَةً في الأرْضِ يخْلُفُونَ، وإنَّهُ لَعِلمٌ للساعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بها واتبعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} : أي ما وضعْتُ عَلى يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفي به دليلا على علم الساعة، يقول : {فَلاَ تمْترُنَّ بها واتَّبِعُونِ، هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ}(الزخرف : 59- 61).
—————
1- الجيد : العنق.
2- المسد : شجر يُدق كما يُدق الكتان فتُفتل منه حبال.
3- الفِهر : حجر على مقدار ملء الكف.
4- قلينا : أبغضنا وكَرِهنا.
5- محمَّد : متجدِّد التحميد أي يتجدد حمده على عكس المتجدد الذِّمِّ.
6- الهمزة : الذي يشتم الرجل علانية ويكسر عينيه عليه، ويغمز به.
واللمزة : الذي يشتم الناس من خلفهم، فالهماز واللماز الطعان في أعراض الناس علانية أو خفية.
7- الشيد : معناه في الفارسية الشمس أو ضوؤها.
8- الأفاك : الكذّاب {ألا أنهم من إفكهم ليقولون ولدَ اللهُ وإنهم لكاذبون}(الصافات : 152).
9- قال : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم للقيلولة، وليس من القول.
10- لخصمته : لأفحمتُه وغلبته في المحاججة والمخاصمة.
11- ذكر صاحب الكشاف في تفسيره > لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش {إنكم وما تعبدون من دون الله حصَبُ جهنم} قال عبد الله بن الزبعري : أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم< فقال : خصمتك ورب الكعبة!! ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي، وتثني عليه خيراً وعلى أمه؟! وقد علمت أن النصارى يعبدونهما؟؟ وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مُبْعدون} ونزل قول الله تعالى : {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} أي من أجل هذا الحق يصُدُّون عن الحق ويعرضون عنه، وقالوا : {أآلهتنا خير أم هو؟؟} يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيّنا<.
قال سيد قطب : ولم يذكر صاحب الكشاف من أين استقى روايته هذه، ولكنها تتفق في عمومها مع رواية ابن اسحاق، ومن كليهما يتضح الالتواء في الجدل، والمراء في المناقشة ويتضح ما يقرره القرآن عن طبيعة القوم وهو يقول : {بل هم قوم خصِمُون} ذوُو لَدَدٍ في الخصومة ومهارة، فهم يدركون من أول الأمر ما يقصد إليه القرآن الكريم ومايقصد اليه الرسول صلى الله عليه وسلم فيلوونه عن استقامته، ويتلمسون شبهة في عموم اللفظ فيدخلون منه بهذه المماحكات الجدلية التي يُغّرَم بمثلها كل من عدم الاخلاص، وفقد الاستقامة. ومن ثَمَّ كان نهي الرسول الشديد عن المِراء، الذي لا يُقصَدُ به وجْهُ الحق، وإنما يراد به الغلبة من أي طريق<انظر الظلال 3197=5 وما بعدها.
والذي يهمنا أن ننبه عليه بهذه المناسبة هو أن القرآن الكريم عند ما يسجل هذه المواقف فإنما يسجلها لنعرف أن كفار قريش لم يكونوا أقل دهاء من كفار هذا العصر بما فيه من ملحدين عتاة، وعلمانيين جُرآء على الحق وأهله. ومع هذا الدهاء الكفري القرشي فإن الله هددهم بالمحق، كما محق قوم عاد وثمود وقوم لوط، وقال لهم : {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر}(سورة القمر) وعندما لم يرتدعوا حاق بهم في بدر وغيرها ما حاق بالأولين من الهزائم، وسيحيق بكفار اليوم ما حاق بالأولين إن لم يتوبوا.