الشباب والعطلة الصيفية


ذ. محمد بنشنوف

الحمد لله واسع العطايا واهب النعم. كاشف البلايا سريع النقم. سبحانه سبحانه أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة. {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعين به وأستنصره وأسأله الفوز بالجنة والنجاة من النار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان خيرة خلق الله. اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله محمد خير عبادك وعلى آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وصار على دربه إلى يوم الدين أما بعد. فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم استفتح بالذي هو خير. يروي الإمام الحاكم والإمام الدار مي رحمهما الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله”نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ “

أيها المسلمون : بدأت العطلة الصيفية وفيها يتضخم حجم الفراغ الذي أشار اليه رسول الله  لدى الأبناء والشباب، وتنحو الأسر مناحٍ مختلفة من حيث استثمارها للوقت، خاصة أن العطلة الصيفية تقارب مائة يوم أي ما يعادل 3000 ساعة من عمر أبنائنا، وفي كل عام يتجدد السؤال وتتجدد الحيرة، كيف سيُمضي الأبناء هذه العطلة؟ وتكون الإجابة عند كثيرين: في النوم، والنزهة، وأمام التلفاز، وشاشات الحاسوب، فما تعني العطلة سوى العطالة والبطالةعند هؤلاء وسوى ضياع للوقت،ومن ثم لها أثر سلبي على الصحة، وتساهم بشكل كبير في تنمية الكسل والتراخي في الأبناء، ثم تتعالى صرخات الوالدين بعد ذلك مستغيثة من جيل هذه الأيام، ونتناسى أننا نحن من ساهم بطريقة جيدة في صناعة هذا الجيل المتراخي الهش.فكيف ينعم أبناؤنا بعطلة سعيدة- بإذن الله- بما يعود عليهم بالفائدة والترويح الممتع في إطار شرعي؟ من الحقائق التي ينبغي الإشارة إليها حول العطلة حقيقتان اثنتان هما :

الحقيقة الأولى :ان العطلة تعني الفراغ من الأعمال والركون الى الراحة والكسل والعطلة بهذا المفهوم فراغ وهذا مفهوم خاطئ فليس في وقت المسلم فراغ أبدا والدليل قوله تعالى : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}(الشرح:7،8). وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعا بمعرفتنا للغة العرب المعنى العام : إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فأي شيء تصنع؟ فانصب، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز ويحقق الخير بإذنه سبحانه وتعالى.

لنستمع – أيها الأخوة – إلى القلوب المؤمنة والأفهام المسلمة والنفوس الحية والهمم العالية كيف فسرت؟ وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى.. عن ابن مسعود ] : “إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل”. وعن ابن عباس ] : “إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء”. وأما الحسن وزيد بن أسلم فروي عنهما قولهما : “إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب إلى عبادة ربك”. وعن مجاهد إمام التابعين من المفسرين : “إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك”. وعن الجنيد : “إذا فرغت من أمر الخلق فانصب في عبادة الحق”. هل رأيتم في مجموع هذه الأقوال قولاً يقول : إذا فرغت فنم؟ إذا فرغت فالهوا والعب ؟ إذا فرغت فضيع الأوقات وانحر الساعات؟ هل سمعنا شيئا من ذلك ؟ وهذه هي المعاني الشريفة العظيمة التي ترجمها القاسمي -المفسّر المتأخر المعاصر- ليجعل لها إطاراً واسعاً ومعنىً شاملاً حين قال : “إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب إلى عمل وخذ في عمل آخر واتعب فيه؛ فإن الراحة إنما تكون بعد التعب والنصب” ومن ثم قيل : إن الفراغ مفسدة : (اللحظة التي يمتلئ فيها الفراغ بما يدفع الشباب إلى الانحراف والضياع ومخالطة الأشرار في غياب الرقابة من طرف الآباء بدعوى أن الطفل حر في وقته يفعل فيه ما يشاء مادام قد فرغ من الدراسة وهنا تكمن الخطورة فقد تهدم العطلة جميع ما تم بناؤه خلال شهور الدراسة -إن كان هناك بناء- ومن ثم لابد من شغل وقت الأبناء في الإجازة بما يفيدهم لأن الفراغ فعلاً مفسدة خاصة في هذا الزمن الذي تمتلئ فيه الشوارع والطرقات بالأولاد الذين لا يراعون حرمة الطريق فلا تدري وأنت سائر في طريقك إلى المسجد من أين ستأتيك الكرة ولو كان لأمثال هؤلاء الأبناء ما يشغل وقت فراغهم في الإجازة لما رأيت كل هذه الطاقات المعطلة. ولابد أن يكون هناك وعي وتثقيف للأسر أولاً لأن كل شاب يتسكع في الطرق يؤذي غيره، وكل من يعاكس الفتيات وراءه أسرة غير واعية ومغيبة وغافلة عن دورها وإلا لما قذفت بأبنائها لرفقاء السوء هكذا، ولو أن كل أسرة عملت بمنهج الإسلام وعلمت أن خير الأنام عمل برعي الغنم (وهو ابن ثماني سنوات وليس شاباً جامعيّاً وكان من أشرف الأسر وأعلاها منزلة حينذاك) ما كان هذا حال شباب الأمة، ولعمل الأبناء فيما يعود عليهم بالكسب وشغل الوقت بالنافع المفيد، فلابد من التوازن بين العمل النافع المفيد وبين الاستمتاع بالإجازة.

الحقيقة الثانية هي أن العطلة فرصة ذهبية : هناك بعض الأمور التي تُعين الشاب على عمارة وقته وحياته في الإجازة وهي : حفظ القرآن أو شيء منه، وكم يمر على أبناء المسلمين إجازة تلو إجازة دون أن يحفظوا القرآن الكريم أو جزءاً منه، فيجب أن نعوِّد الأبناء على أن يحفظوا خلال هذه الإجازة على الأقل خمس آيات يوميّاً، وأيضاً قراءة السنة النبوية وفهمها، وكتاب رياض الصالحين ففيه خير كثير، وكذلك الحرص على الكسب وتعلم صنعة أو مهارة؛ فالإجازة ليس معناها النوم والسهر؛ بل يجب أن يكون هناك عمل صيفي يتكسب من ورائه، حتى يتعلم الحياة بالحياة ويتذوق طعم كسب المال الحلال من عرق الجبين.

وقد تفيد الإجازة في تقوية الضعف الدراسي حيث إن بعض الطلاب يعاني ضعفاً في بعض المواد الدراسية كتعلم اللغات والرياضيات وهذا يسبب له تأخراً في الدراسة، فلتكن الإجازة فرصة لإصلاح حاله في هذه المواد وغيرها.

الشباب مع العطلة ثلاثة أصناف : يقول الدكتور عائض القرني : حين تأتيك العطلة الصيفية ينقسم شباب الإسلام إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، فأما الأول فهو شاب ظن أن الحياة لعب ولهو وغناء وأكل وشرب ونوم وذهاب وإياب، وما عَلِم أن الله سوف يسأله عن كل دقيقة من دقائق حياته، وهذا الصنف يتحرى الإجازة بلهف ليذهب في كل مذهب، أما الصلوات فلا تسأل عنها فقد ضيّعها، وأما القرآن فهجره، وأما الذكر فلا يعرفه، وأما المسجد فما اهتدى إليه.

وأما الصنف الثاني فهو شاب مقتصد لم يقض الإجازة في معصية الله بل يقضيها في المباحات، يؤدي الفرائض، وينتهي عن المحرّمات، وينام نوماً عميقاً، فإذا استيقظ اشتغل بالزيارات والنزهات، فأين استثمار الوقت؟ أين القراءة؟ أين التلاوة؟ أين العلم والتعلم؟

وأما الصنف الثالث فهم السابقون بالخيرات وهؤلاء هم شباب الإسلام، ونجم التوحيد، وكوكبة محمد ، وهم الفجر لهذا الدين، إنهم شباب عرفوا الحياة وعرفوا أنهم سوف يقفون بين يدي علام الغيوب، وعرفوا أن السلف الصالح استثمروا أوقاتهم في مرضاة الله. هذا الشاب سابق بالخيرات، كتاب الله خِدنه ورفيقه وربيع قلبه، لا تفوته الصلوات ولا تكبيرة الإحرام في جماعة.وهذا التقسيم إنما هو إشارة الى الآية الكريمة من سورة فاطر التي تقسم الناس جميعا إلى ثلاثة أصناف : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا…}الاية.

ويدعو الدكتور القرني الشباب أن يكونوا من السابقين بالخيرات الذين جعلوا ليلهم طاعة، ونهارهم تسبيحا وزلفى وقربى من الله، كمصعب بن عمير، وسعد، وخالد. كطارق وصلاح الدين، فالشباب هم أمل الأمة والمرشحون لقيادة البشرية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>