يلحظ المرء وهو يوغل في قراءة واقعة الإسراء والمعراج، ذلك التوازي الحسّي بين تجربة رسول الله على أرض الواقع، وبين رحلته السماوية الفذة.. فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن في التاريخ يقاتل بالأدعية والمأثورات وهو قاعد مستريح، ولكنه كان يقاتل بها وهو يتألم، ويعاني، ويتعذّب، ويطارد، ويقذف بالحجارة، ويجرح بالشوك، وترمى على رأسه الشريف الجزور المتعفّنة !
وعندما نادى في معركة (بدر) الصعبة : “اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعدها في الأرض أبدا”.. ما كان ليقولها لو لم يكن سيفه يعمل في رقاب المشركين، ويذبح الطاغوت الذي طالما عبّد الناس لنفسه من دون الله..
ودعاؤه وهو يتجرّع مرارة الخذلان في الطائف منادياً ربّه “..إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي..”.. يبالي بم؟ بالنصب والعذاب والملاحقة والآلام الحسّية التي كان يعيشها لحظة بلحظة وخطوة بخطوة..
إن رحلته هذه إلى السماء والتي تجيء موازية تماما لمعاناته في العالم.. في
التاريخ.. يتحتمّ بالضرورة أن تكون في المساق ذاته.. نسيجها هو ها هنا كما هو هناك.. معجوناً من تراب الأرض وشفافية السماء !
على المستوى الحضاري يلحظ المرء كيف كانت هذه الرحلة المدهشة بمثابة اكتشاف كوني للسنن والنواميس الإلهية التي تصنع الأشياء وتسيّر الموجودات، وتسوق العالم إلى مصائره وفق أشد الطرق استعصاءً على التعامل المسطّح ذي المنظور الأحادي والنزعة المستسلمة التي لا تبحث ولا تنقّب ولا تسعى إلى الكشف والتنقيب عن السّر المكنون.
إن الفعل الحضاري هو في أساسه ممارسة اكتشافية، وإنه لا حضارة بدون عقل توّاق للبحث والاكتشاف والتنقيب.. بل، وأقولها متردّداً، بدون مجازفة أو مغامرة كونية.. فان الحضارات تصنعها، فضلاً عن الكشوف، المغامرات الكبيرة التي لابدّ أن يضحّى من أجلها بالدعة والأمان !
لقد صنع المسلمون، فيما بعد، حضارتهم المتفوّقة بكل المقاييس.. ولكن اللبنة الأولى.. حجر الزاوية.. يتحتم أن نبحث عنها هناك في كتاب الله وسنة رسوله.. وفيما يحدثنا عنه كتاب الله وسنة رسوله عن رحلة كهذه الرحلة التي أتيح للرسول عليه السلام أن يكتشف بها المجاهيل..
إنني لأتذكّر هنا -ملزما نفسي بالإيجاز- واحدة فحسب من هذه الاكتشافات حيث يقول الرسول وهو يتحدث عن سدرة المنتهى “فغشيتني ألوان لا أدري ما هي..” وأتذكر معها ما يقوله العالم الأمريكي المعاصر (كريسي موريسون) من أن أجهزتنا الحسّية، ها هنا في هذا العالم، مهيأة فقط للتعامل مع مقادير محدودة من المرئيات، أما هناك، فإنها قد تمنح بقوة الروح الخالدة مساحة أوسع للاستقبال، فتكون الألوان التي لم يدر رسول الله كيف يصفها لأصحابه لأنه لم يجد اللغة التي تنقلها إليهم !
إن أحدث النظريات في مجالي التشريح والفيزياء الذرية على وجه الخصوص، فضلاً عن فلسفات العلم في أكثر عروضها جدة وحداثة، تؤكد، أكثر فأكثر، انفتاح المنظور على الغيب، والظاهر على الباطن، وتشير، أكثر فأكثر، إلى لقاء محتوم، تحقّق أو هو في طريقه إلى التحقّق، بين الروحي والمادي.. ويكفي أن نقرأ ما كتبه علماء كبار كأينشتاين وجينز وكاريل وأكروس وسوليفان.. لكي يتبيّن لنا هذا.. بل ما هو أكثر مــن هذا : أن مكوّنات الذرات الخفية التي لا تراها العيون، تملك قدراً من الوعي الحرّ الذي يدفعها إلى التسبيح للخلاق الذي فطرها.. سبحانه.
وأن هذا الكون في صفحته الظاهرة ليس سوى تعبير مؤكد على عقل مركزي فعّال هو الذي يصمّم ويصنع ويخلق، ويحيل الكتل الصمّاء إلى تصاميم صالحة لاستقبال الحياة، قديرة على إعانة الإنسان على مواصلة سعيه الهادف في هذا العالم.
أفلا يكون إسراء رسولنا عليه السلام، ومعراجه إلى السماء، مباركة وتزكية لهذا اللقاء الذي سيقدّر له أن يتكشف بعد قرونٍ من تحققه، كحدث معجز يصعب تبيّن أبعاده للوهلة الأولى؟