كيف نجعل من اللغة العربية لغة تدريس العلوم بالجامعات العربية؟


ذ. موسى الشامي
- رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية -

تقديم: سياق تأسيس الجمعية.

هل وجدنا مشكلة ما في تعريب المواد العلمية بالمدارس الثانوية بالمغرب؟ لا أعتقد ذلك… وإذا كان طلبتنا في الجامعة يلاقون مشاكل/ فهذا أمر طبيعي، إذ كيف لطالب درس جميع المواد العلمية في الثانوي متابعة دراسته لهذه العلوم بالتعليم العالي بلغة لا يتقنها جيدا… الفشل ليس مصدره الطلاب أواللغة، بل الفشل يتحمله من ليس له الإرادة السياسية لكي يقرر تدريس العلوم بالعربية في الجامعة، ولا يقرر ذلك خوفا من أن يصبح التعريب كارثة، إذا لم يعمم هذا الأخير على الحياة الاقتصادية التي باستطاعتها امتصاص خريجي الجامعات، والتي تمثل فضاء تابعا لدول أجنبية تشتغل وتصر على الاشتغال بلغتها…

كيف إذا يمكن في ظل أوضاع تجدرت فيها أمية رهيبة، إنتاج المعرفة والعلم بالعربية وقبل ذلك جعل اللغة العربية لغة تدريس العلوم في الجامعات العربية؟

المفتاح الأول لجعل اللغة العربية لغة العلوم بالتعليم العالي هوالاعتماد على النخب المثقفة الواعية بقدرات اللغة العربية للعمل في اتجاه خلق إرادة سياسية لدى أصحاب القرار، لأن هذه الإرادة منعدمة الآن لديهم.

إذا أردنا سياسيا، فلابد أن نجد الحلول في هذا المجال، وأن تكون هناك حلول بدون مشاكل  وتحفظات من جانب أولائك الذين يعادون العربية -وهم أبناؤها- لأنهم لم يدرسوا بها ولا يتقنونها، وبالتالي، فهم لا يثقون في قدراتها. وحقيقة، فإن الأمر فيه تعقيد، لأن تعريب العلوم، في التعليم العالي -مع الإبقاء طبعا على اللغات العلمية العالمية- يقتضي  ضرورة العمل على إيجاد أسواق لخريجي الجامعة الحاملين لشهادات في العلوم باللغة العربية وهذه الوضعية تحتاج، هي كذلك إلى قرار سياسي لجعل القطاعات الاقتصادية وغيرها في البلاد تشتغل باللغة العربية.

إذًا، إذا أردنا سياسيا استطعنا عمليا والقرار السياسي النافذ والحازم هوالمفتاح الأول في هذه المعضلة اللغوية – تدريس المواد العلمية باللغة العربية بالجامعة.

لكن، لا يكفي أن نقول : “إن الإرادة السياسية ضرورية لتعريب العلوم في التعليم الجامعي والبحث العلمي”. فالإرادة السياسية والمناداة بها شيء وتجسيدها على أرض الواقع تنفيذها شيء ثان والقول بالإرادة السياسية، ثم تربيع الأيدي والانتظار -كما هوالحال الآن مع توصيات المجامع العربية- لن يأتي بأية نتيجة…

كيف إذا نجعل هذه الإرادة السياسية واقعا ملموسا وممارسة لدى من يتحكم في مقاليد الأمور؟

كيف نجعل أصحاب القرار السياسي يرضخون للطلب المتمثل في تعريب المواد العلمية بالجامعة؟

من يقوم بهذه المهمة الصعبة؟

وما هي الوسائل الواجب استخدامها لتحقيق هذه الرغبة؟

تقوم بهذه المهمة النخبة المثقفة علميا ولغويا والناضجة سياسيا، وهي نخبة لها وجود فعلي في كل البلاد العربية ورغم ضيق الحريات الموجودة في هذه البلاد، فبإمكان هذه النخبة أن تتحرك، على الأقل بكتاباتها العلمية القادرة على الإقناع…

وأما الوسيلة الكبرى لدى النخبة لاستصدار القرار السياسي في الاتجاه المتحدث عنه، فهي وسيلة الضغط وسأعود لاحقا لإعطاء مدلول لهده الكلمة.

هذا الضغط يتجسد بالحجة العلمية والاحتجاج الهادئ المشروع.

وأما الحجة العلمية، فهي تتعلق بالقدرات اللغوية للغة العربية في مواكبة المعاصرة، وهوأمر متجاوز، بالنسبة لي، إذ ليس علميا الطرح الذي يقول بقصور العربية في التعبير عن المعطيات العلمية والتكنولوجية الحديثة، وقدرة اللغة العربية على التعبير عن العلوم هي من الحجج التي تأتي بالقرار السياسي وهكذا تكون الحجة العلمية قد برهنت على أن الأدوات التي ستستعملها هي أدوات قادرة على تحقيق الهدف…

وأما الاحتجاج الهادئ والمشروع فهومنهجية في العمل يجعل القرار السياسي واقعا ملموسا، وهويستعمل الأدوات القانونية التي يعتمد عليها دستور البلاد لتسيير الشأن المجتمعي، وهذا الاحتجاج -لكي يكون ذا مردودية- لابد أن يكون سلميا، مقنعا، هادئا وهادفا وإلا تحول إلى فوضى والفوضى لا تأتي بالنتائج الإيجابية…

لماذا الضغط؟

لأن أصحاب القرار السياسي، غالبا لا يفهمون الرهانات اللغوية.

ما يهم السياسي هوالنجاح الفوري الذي يجعل المجتمع يَهْدَأُ لوضعه الاجتماعي والاقتصادي وأمنه الغذائي دون الاكتراث للطريقة التي توفر أو تؤمن هذا الوضع الاقتصادي الآمن : الخبز والاقتتات قبل اللغة والهوية والتعبير عن الذات ذهنيا وثقافيا ولغويا. الحفاظ على الحياة البيولوجية قبل التفكير في الطريقة للتعبير عن هذه الحياة…

الضغط ليس هوالفوضى، وهووسيلة حضارية يستعملها مبتكروالأفكار لتطبيق الأفكار التي يؤمنون بها، وهي أفكار ناتجة عن البحث العلمي الموضوعي…

هل يمكن أن نتحدث عن منهجية للضغط؟ ومن يقوم بوضع هذه المنهجية؟ وكيف السبيل إلى تنفيذها؟

الضغط في اتجاه إخراج قرار سياسي في موضوع ما يأتي من أفراد يجتمعون على منهجية واضحة تهم فكرة يؤمنون بها مثل مثلا فرض اللغة العربية كلغة تعليم المواد العلمية بالجامعة وهذه المنهجية نتاج جماعي لهؤلاء الأفراد الذين يشكلون نخبة.

هناك في المجتمعات العربية مثقفون واعون بأهمية اللغة العربية ودورها الخطير في التقدم الحضاري للمجتمعات العربية وهم يعرفون ذلك ولا يستطيعون تجسيد هذا الأمر على أرض الواقع لأن ذلك يحتاج إلى قرار سياسي وهوالشيء الذي ليس بيدهم… وللحصول على هذا القرار، فهم ملزمون باتخاذ مبادرات للضغط على من يتحكمون في مقاليد الأمور… ولهذا، فهم مجبرون على خلق إطار للضغط…

وقد يكون هذا الإطار مركزا للبحث العلمي المنتج للدراسات الجادة، أوجمعيات مدنية ثقافية، أومنتديات علمية، أولجن أوتيارات علمية في أحزاب سياسية… وهكذا وعن طريق هذه الهيئات، يبدأ مسلسل الضغط ويبدأ كذلك التفكير في وسائل الضغط ومن هنا  تنبثق منهجية الضغط وقد تكون على شكل بحوث علمية أودراسات مختلفة أوتعبير إعلامي ضاغط أوعرائض مستنكرة، أواتصالات مباشرة مع صناع القرار ومالكيه ومنفذيه أومكاتبتهم الدائمة إلى أن يستجيبوا أوالضغط بالتظاهر، أوبالالتجاء إلى القضاء، أوالضغط بالإضراب، أوبحمل الشارات أوبالكتابة إلى المنظمات الدولية، أي الضغط لجعل الآخر الأكثر نفوذا يقوم بدوره بالضغط… وهكذا يمكن الحديث عن الضغط الإيجابي الذي يحتاج إلى النفس الطويل والإيمان بالمشروع المدافع عنه…

وقد يساعد في هذا الشأن وفي هذا الاتجاه المجتمع المدني والمجتمع السياسي (لأن النخبة تكون على اتصال وثيق بهما) المتشبعان بالنظريات العلمية لأصحاب الفكر التنويري، هؤلاء ينظرون ويقدمون الأفكار على شكل دراسات علمية موضوعية والمجتمع المدني والسياسي يتبنيان هذه الأفكار ويعملان بدورهما على إقناع أصحاب القرار بالأخذ بها بالنسبة للغة لم يحدث هذا لحد الآن، وإن كانت النقابة الوطنية لأساتذة التعليم العالي بالمغرب ترفع هذا الشعار، ولكنها لا تدافع عنه بما يلزم من الصرامة والحزم.

بالطبع، هذا صعب وشاق ويتطلب قوة الإقناع والإلمام بتقنيات التواصل والنفس الطويل والصبر لأن أصحاب القرار، كما سلف، لهم اهتمامات أخرى، ويخشون التغيير، لأن التغيير -بالنسبة لهم- قد يكون مغامرة وخيمة العواقب، وقد تجهز على كل مكتسباتهم، وهي مكتسبات محافظ عليها أساسا باللغة الأجنبية.

الضغط إذا، بالحجة العلمية والاحتجاج المشروع هما ما ينبغي أن يقوم به المتنورون -أصحاب الفكر- في المجتمعات العربية، وذلك بمختلف الوسائل المشروعة والتي لا تخرج عن إطار القانون والأعراف الحضارية…

سلاح الضغط هوما يجب أن يكون لدى من أراد للعربية أن يكون لها شأن، مستقبلا، في تدريس العلوم بالعربية بالتعليم الجامعي،وقد يصبح الضغط تحرشا إيجابيا، يأخذ أشكالا متعددة يأتي بنتائج جيدة على المدى المتوسط والبعيد…

الضغــط المشترك :

لنأخذ مثال الفيتنام… لماذا لم يجد هذا البلد الصغير أية مشكلة لتدريس العلوم بلغته الوطنية؟ لأن الفيتنامية محصورة في بلاد واحدة وهذا يعني أنه عندما يقع الاتفاق على أمر لغوي ما، ينفذ في الحين على مدار الرقعة الجغرافية للبلاد. وهكذا تتقدم الأشياء، بعكس البلاد العربية التي تعرف عائق التنسيق في كل شيء، ومعنى هذا أن تقدم العربية رهين باتحاد عربي وتنسيق مشترك، دائم ومستمر معنى هذا كذلك أن الضغوطات لصالح العربية كلغة تعليم العلوم بالجامعة، يمكن أن يكون مصدرها جميع البلاد العربية، فيقع الإجماع الذي يخلص الدول العربية من الضغوطات الخارجية التي توحي أن هذه الدول ستظل متأخرة عن الركب الحضاري إذا لم تأخذ أمورها الاقتصادية والعلمية وغيرها باللغات المهيمنة الآن، وهي ضغوطات تجلب الخوف من المستقبل والتيه فيه، الشيء الذي يفضي بالتمسك بالحلول السهلة (اللغات الأجنبية).. لكن هل تقدمنا باللغات الأجنبية ونحن الآن حاضنون لها؟ وهل تقدمت دول أفريقيا بلغات الغرب وهي عندها لغات رسمية؟

وأنه لمن الضروري كذلك أن يقع الضغط من المنظمات العربية المختلفة -وهي التي لها حضور فعلي وازن على الساحة العربية- لحث الحكومات العربية على رفع تحديات البحث العلمي والتعليم الجامعي وإنتاج المعرفة باللغة العربية.

بدون هذا الوعي بالضغط الذي هوالحجة العلمية والاحتجاج العلمي والهادئ والمشروع والذي يجب أن تضطلع به النخبة العالمة في البلاد العربية، ستظل اللغة العربية يتيمة ومهيضة الجناح، ولكن الأمل لا زال معقودا على هذه النخبة التي تلاحظ أنها مصممة اليوم أكثر من أي وقت مضى، على رفع جميع التحديات التي تواجهها…

(ü) عرض قدم في مؤتمر دولي نظمه مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أيام 15 و16 و17 أبريل 2008م، في موضوع: “اللغـــة العربيـــة و,التنمية البشرية”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>