العلامة عبد الحي عمور
هناك مخطط مسيحي تنصيري تروج له الدعاية الأمريكية ووسائل الإعلام الأوربية في أوساط العالم العربي والأسيوي، تعمل على إشاعته بين المسلمين، بهدف زعزعة عقيدتهم الدينية والتشكيك في مصداقية الإيمان والاعتقاد الذي تقوم عليه شريعتهم، بحجة أن عقيدة الإسلام تقوم على القتل والترهيب والتخويف والرفض، وعدم قبول الآخر غير المسلم، وأن شريعته ترفض القيم والمبادئ الكونية التي أقرتها المواثيق والمعاهدات الدولية من حرية ومساواة، واختلاف وتسامح ومحبة…
وقد بلغ هذا المخطط الهجومي على عقيدة الإسلام وشريعته ذروته، وتجاوز المحيط الجغرافي والمكاني والبعد السياسي، ليصبح “عقيدة إيمانية” صلبة تعاون على تحقيقها وبثها في النفوس “الأصولية الانجيلية” التي تعتبر المسلمين أشرارا يعوقون تحقيق الإرادة الإلاهية المتمثلة ـ حسب زعمهم ـ في هيمنة المسيحيين على العالم، وسيطرة الأصولية المسيحية الإنجيلية على المسلمين، والتحكم في أقدارهم ومصائرهم، والعمل الممنهج على إشاعة عقيدة التثليت بينهم بمختلف الوسائل الإغرائية والترهيبية والاجتماعية والثقافية… حتى تعم أقطار المسلمين.
وزاد الأمر خطورة تعاون اليهودية الصهيونية والمسيحية الكاثوليكية، الممثل في أحد مظاهره ـ الذي تسرب إلى الإعلام ـ على إجراء مصالحة دينية بينهما، ضدا على الإسلام وعقيدته وشريعته، بين الفاتيكان والحاخامية الإسرائيلية الكبرى، حيث سبق أن استقبل الباب “يوحنا” في المقر البابوي، الحاخامين الأكبر الإسرائيليين ورحب بهما واستمع إلى شكواهما من المسلمين الذين يقتلون الإسرائليين أبناء إبراهيم في فلسطين أرض الميعاد للهيودية والمسيحية، بسبب عقيدتهم الدينية المتطرفة، دون أن يذكر لهما ما يعانيه المسيحيون في أرض فلسطين والدمار الذي أصاب بيت لحم مهد السيد المسيح؟؟ إنه التفاهم والتآزر والتعاون على الإسلام.
إن المخطط الاستئصالي الذي تتعاون فيه الصهيونية العالمية الحاقدة، والمسيحية الكاثوليكية النافذة، والأصولية الإنجيلية المتطرفة،ويجد تأييدا من لدن الإمبريالية العالمية والغرب المسيحي الصليبي على اختلاف مدارسه ومذاهبه ومعتقداته، ويصادف واقعا إسلاميا هشا وضعيفا على مختلف المستويات العقدية والاجتماعية والثقافية، وتبعية من لدن بعض القيادات الثقافية العلمانية والسياسية الحاكمة، ما يمهد الطريق وييسر المأمورية الخطيرة على هذا المخطط الاستئصالي الذي أخذ طريقه إلى عالمنا الإسلامي يبشر بالمسيحية الصليبية ويغزو المسلمين في أعقار ديارهم، وأخذ شكلا في التدخل في حياتنا الدينية بالضغط على بعض الحكومات الإسلامية الضعيفة لتغيير المناهج التعلمية “وتنقيتها” من كل ما ينمي فطرة الإيمان الإسلامي في قلب المسلم وعقله حتى يسهل تجفيف ينابيع الإيمان والمعتقد الإسلامي في نفسه.
هذا المخطط الخطير الذي يهدف إلى النيل من المسلمين في عقيدتهم وشريعتهم وهو يتهم بجد ما ييسر له السبيل من خلال ما يخترق عقول شبابنا، ويتسرب إلى أفكارهم وما يقرأون وما يسمعون من أفكار ومفاهيم ونظريات علمانية وحداثية في الفكر والثقافة والأخلاق والعقائد، تصادف هوى في النفوس، وفراغا في العقيدة وخواء في الروح تهتز معها مبادئهم وتضطرب بسببها اعتقاداتهم، وتضمر تحت تأثيراتها ثقافتهم الدينية وتنحرف بها أخلاقهم، وذلك بسب الفراغ الديني الذي يعيشونه وهيمنة الثقافة العلمانية على عقولهم ومشاعرهم، وغياب الثقافة الإسلامية الصحيحة.
والظاهرة الخطيرة التي يعالجها هذا الموضوع تندرج في سياق المخطط التبشيري الذي ينطلق من مفهوم مضل لحرية المعتقد الديني يستهوي عقول بعض الشباب ويجد هوى في نفوسهم من أن لهم الحرية الكاملة في اختيار عقيدتهم وديانتهم، واعتناق ما يشتهون حسب اختياراتهم الذاتية وقناعتهم العقلية.
فما حقيقة حرية المعتقد الديني في الإسلام؟ وهل العقيدة الإسلامية التي هي فطرة الإنسان من حيث هو ـ تقوم على التخويف والترهيب؟ وهل من الحرية في الإسلام أن يبدل المسلم عقيدته؟ وما حكم استبدال المسلم لعقيدته؟ وواجب الدولة والمسلمين في حماية المعتقدات الدينية؟
كل هذه التساؤلات المطروحة يحاول هذا الموضوع تسليط الأضواء عليها في إيجاز واختصار.
إن من أهم مبادئ الشريعة الإسلامية وأهدافها الكبرى إبطال العبودية وتعميم الحرية، باعتبارها خلقة فطرية في الكائن البشري يتصرف وفقها بما يحفظ الكرامة ويصون النظام العام للأمة من العبثية والإفساد، ولا يتنافى مع ضوابطها الشرعية، أو يتصادم مع قوانينها الوضعية، وإلا أصبحت الحرية انفلاتا لا حد له ولا ضبط، خاصة إذا كان الانفلات باسم الحرية، يمس العقيدة والمقدسات، ويعرض الأفراد والجماعات للخلافات المذمومة والتناقضات المذهبية، التي تحدث شرخا في نظام الجماعة، واضطرابا في كيانها، ولهذا تواضع العقلاء والمفكرون الأحرار بحق، على التمييز في الممارسات والأقوال والأفعال، بين ما يمكن إطلاق العنان له أو غض الطرف عنه لأنه لا يكون خطرا ولا إضرارا بالآخرين، وبين ما يشد عقاله ويتدارك أمره إذا كان فيه مسا بالمعتقدات والشرائع والأحكام العامة، التي تخضع لها الأمة والجماعة، وتتعايش وفق قوانينها وضوابطها، سواء تعلق الأمر بالاعتقاد، أو العمل بالقوانين والأحكام، فيما لا يحل حراما أو يحرم حلالا، باعتبار أن حرية الفرد في النظام الإسلامي تخضع لمحددات الشريعة التي منها عدم إلحاق الممارس لحريته الخاصة، الإضرار بغيره أفراداً أو جماعات.
حرية المعتقد في الإسلام
ومن الحريات الأساسية التي أرسى الإسلام دعائمها وأقرها: حرية المعتقد الديني، حيث أباح للفرد اختيار عقيدته الدينية بعيدا عن أي ضغط أو إكراه، لأنها من الأمور القلبية التي لا تتم إلا بالاختيار و الاقتناع، ولا يمكن فرض العقيدة بالإكراه والقوة، ذلك أن القوة لا تؤثر في عالم القلب والوجدان، والمشاعر والأحاسيس، حيث مستقر العقيدة، وإنما ينحصر تأثير القوة في الأعمال الظاهرة والحركات البدنية المادية.
وهذا المفهوم لحرية الاعتقاد هو ما تدل عليه الآية القرآنية {لا إكراه في الدين}(البقرة: 256) حيث تعني: أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والإكراه، إنما بناه على التمكن والاختيار لله كما ذكر الرازي في تفسيره، إذ الإيمان عقيدة، والعقائد لا تلتصق بالعقول بالجبر والإكراه، فضلا عن أن أمر الاعتقاد والإيمان يقوم على الاستدلال وإعمال النظر، ومن ثم فإن “لا” في الآية نافية وليست ناهية وهي إخبارية تحكي عن حال التكوين والإنشاء، الذي ينتج حكما دينيا ينفي الإكراه عن الدين في الاعتقاد المبدئي، كما تؤكده الآية الموالية التعليلية: {قد تبين الرشد من الغي} التي تبين علة عدم الإكراه، ذلك” أن من أراد أن يعمل عقله وفكره، وأن يمزق حجب الكبرياء والعصبية والأنانية من نفسه، سيرى الحق ويؤمن به، ومن أراد أن يسدل حجاب الكبرياء والغشاوة على نفسه، فلن يهتدي إلى الحقيقة”، والآية من هذا المنطلق محكمة لا منسوخة، بل هي ناسخة لحكم قتال الكافرين وإكراههم على الإسلام، والاكتفاء منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وحكمه، وخاصة بعد فتح مكة، مما يتأكد معه ـ كما ذهب إلى ذلك عدد من المفسرين ـ أن هذه الآية ناسخة لما تقدم من آيات القتال، نعم هناك من قال بأنها منسوخة في قوله تعالى في سورة التوبة73 {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} ولكن هذا لا يتفق، من أنه صلى الله عليه وسلم قبل من أهل الكتاب الجزية.
وهذا الاختيار العقدي الذاتي النابع عن اقتناع داخلي، عقلي ونفسي، هو الذي يناسب حقيقة الإسلام، باعتبار ما يترتب على العقيدة الإسلامية: من عبادات وتشريعات ومعاملات وسلوك، إذ لا عقيدة بدون شريعة، والعبودية لله تقتضي الالتزام بالشرائع والأحكام.
وفي هذا المبدأ الإسلامي: حرية المعتقد الديني، ما يؤكد تكريم الله تعالى للإنسان، واحترامه لإرادته وفكره ومشاعره، وذلك بترك أمر نفسه إليه فيما يخص الهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة اختياره وعمله، ورضي الله عن الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان له غلام نصراني يخدمه، وكان يحاوره دائما ويهيب به أن يسلم ويقول له: لو أسلمت لاستعنا بك في بعض المصالح والأمور، فيتعذر الغلام ويرفض الإسلام، فيقول عمر: ذلك شأنك، لا إكراه في الدين.
والإسلام يذهب بعيدا في حق المعتقد الديني إلى درجة اعترافه بالآخر الديني يقول تعالى: {لكم دينكم ولي دين} ذلك أن شرعية الآخرين الذين لا يؤمنون بديني، ليست مبنية على أن اعتقادهم حق أو باطل، ولكن الشرعية تقوم على الحقيقة الإسلامية التي أقرها ابتداء، وهي أن الآخرين لهم حقهم في اختيار عقيدتهم، بما تستلزمه من حصانة وحماية وكرامة، على الرغم من أن هذا الحق الذي هو إقرار واعتراف، يؤكد الانفصال والاختلاف البين والجوهري بين دين ودين، حتى ليستحيل اللقاء، لأن الاختلاف يمس جوهر الاعتقاد وطبيعة التصور.
إضلال وتمحل
ذلك هو المفهوم الإسلامي لحرية المعتقد الديني. لكن خصوم الإسلام وأعداءه وغيرهم من العلمانيين والحداثيين، ومؤرخي الفكر الديني العام، الذين يؤمنون بانحسار الإيمان الديني، ويعملون على إفقاد الدين لمرجعيته المعصومة ومبادئه وأسسه التي قام عليها، من منطلق أن العصر الذي تعيشه هو عصر العلمانية وما بعد الدين، ودين العقل، ينفون هذه الحرية العقدية عن الإسلام، ويريدون إسقاط القداسة عنه، ويعمدون إلى بعض النصوص الدينية فيلوون أعناقها في تعسف وتمحل، ليدللوا على أطروحتهم التي تزعم أن الحرية العقدية إنما جاءت في عصور التنوير الأوربية وأنها نتيجة المذاهب الإنسانية العالمية التي وضعها العقل باستقلال عن الوحي، مع الأسف شايعهم في ذلك بعض رجال الفكر المسلمين. ونحن نتوقف عند أحد هذه النصوص الدينية التي يرون فيها أن حرية المعتقد غائبة عن الإسلام، وأن العقيدة الدينية فرضت على معتنقيها في بداية الدعوة الإسلامية بالإكراه والإجبار، وقوة السيف، ويستدلون بالحديث المتفق عليه والذي رواه البخاري ومسلم: >أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويوتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله<.
والقراءة غير المتبصرة لهذا النص الحديثي، تظهر أن عقيدة الإسلام فرضت بالتهديد والقتل، وان ما ندعيه عن حرية المعتقد لا يتفق مع النص المذكور وبالتالي فليس الأمر صحيحا.
لكن المتأمل المتبصر في صيغة الحديث، العارف بأسرار اللغة العربية، يتبين أن ليس في هذا النص ما يفيد الفرض والإلزام، ذلك أن هناك فرقا بين (أقاتل) و(أقتل)، والروايات الخمس التي ورد بها الحديث كلها تقول: ” أمرت أن أقاتل” والقتال مفاعلة ومشاركة مما لا يتم إلا بالمقاومة.
والمقاتلة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تخص أولئك الذين يصدون عن سبيل الله ويمنعون الدعوة إلى دينه الجديد، مما يترتب عنه عدم تبليغ لرسالة الله التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بتبليغها إلى الناس، وهذا عكس ما إذا تركوا الدعاة إلى الله، وفسحوا المجال للمسلمين أن ينقلوا إلى الناس الدعوة الجديدة حيث لن يكون قتال ولا حرب.
ويزيد هذا الفهم الصحيح للنص الحديثي قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة 81),
وما يرد من النصوص الدينية المطلقة التي تفيد الأمر بمقاتلة المشركين، يجب حملها على ضوء النصوص المفيدة لا العكس(1).
حكم الردة في الإسلام
لكن ماذا بعد تكوين الفرد لعقيدة الإسلام، واختياره هذا الدين؟ حيث يصبح مسلما بعد أن كان كافر، وكذا بالنسبة للإنسان يجد نفسه مسلما بالوراثة لوجوده في مجتمع للمسلمين؟ إن الأمر في الحالتين السالفتين يصبح اعتقادا نهائيا والتزاما أبديا لا رجوع فيه ولا اختيار حيث لا يحق لمسلم أن يبدل دينه نصا وإجماعا لما جاء في السنة النبوة : >لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والتارك لدينه المفارق للجماعة< ولما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال: >من بدل دينه فاقتلوه<، وأنه أمر بقتل امرأة ارتدت. وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من ارتد عن الإسلام، ومثل هذا حديث في العصر الراشدي حيث لم يتوان الخلفاء الراشدون من تطبيق شرع الله تعالى في المرتدين بعد الاستتابة، مع ما يترتب عن ذلك من أحكام.
والمقاصد الشرعية من إقامة هذه العقوبة الدنيوية ليست عقدية فقط، كما قد يتوهم ـ ولكنها اجتماعية، ونفسية وسياسية: ذلك أن المرتد تنكر لفطرته التي ولد عليها وهي الإسلام: فطرة الله، وخرج من ربقة الجماعة والأمة بانسلاخه عن دينه، ونقض العهد الذي يربطه بمجتمعه الإسلامي، باعتبار أن رابطة الدين هي الآصرة المعتمدة التي تجمع بين أفراد المجتمع الإسلامي، مما يخل بالنظام ويعرض أخلاقية الأمة وسعتها للخطر والاهتزاز، فضلا عن أن ارتداده عن عقيدته، يعد تلاعبا بالدين وسلوكا سيئا، واتباع هوى النفس، ويعبر عن نقص في العقل، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ارتداد الشخص عن دينه الحق من فسح المجال لنشر ما يخالف عقيدة الأمة وشريعة الإسلام، كما هو واقع اليوم.
هذا فضلا عما هو متعارف عليه إسلاميا من أن هناك ضروريات وكليات خمس تعتبر بمنزلة الثوابت في حياة الأفراد والأمة، والقيم الخالدة التي يقوم عليها المجتمع الإنساني، وفي مقدمة هذه الضروريات والكليات: حفظ الدين الذي هو عقيدة وشريعة إذ أن المجتمع لا يتماسك أفراده وينتظم أمره إذا لم تتم المحافظة على هذه الكليات والضروريات الخمس.
لا يقال إن هذا الحكم الإسلامي في عقوبة الردة جاء سدا لذريعة وكان ظرفيا وتشريعا جزئيا له ارتباط بالزمان والمكان بحيث ينسحب على ظروف نشأة الأمة الإسلامية وبنائها وتكوينها في العصر الرسالي والراشدي فقط، أما الآن فقد امتدت على بقاع واسعة من العالم وأصبحت من القوة والمنعة بحيث لا يؤثر الارتداد على وجودها وقوتها، ذلك أن هذه العقوبة جاءت تشريعا عاما للأمة كلها على امتداد وجودها، زمانا ومكانا بنص الحديث المذكور والارتفاع القائم على النص، وما كان كذلك لا يقبل التغيير أو النسخ، بخلاف الإجماع القائم على النظر والاجتهاد، وإن كان هذا لا ينسخ أو يغير إلا بإجماع مثله.
وباعتبار أن عقوبة المجاهر بردته هي عقوبة تعزيرية لا حدودية حيث لا تقام على من ظلت حبيسة نفسه في مكنون سريرته ـ فإن هذا ينفى ما شاع في الفقه الإسلامي من أن المرتد “مهدور الدم” مستباح النفس يقتله من شاء من المسلمين، ولا عقاب على قاتله إلا الافتئات على الحاكم، بل لابد من محاكمته وصدور حكم قضائي بشأنه وإصراره على ردته.
تمرد ورفض، لا حرية واختيار
إلا أنه بالرغم من هذه العقوبة الزاجرة ـ التي أناطها الشرع بأولى الأمر ـ فإننا بدأنا نقرأ ونسمع أن أفراداً وأسراً تنسلخ عن عقيدتها وتبدل دينها الحق: {إن الدين عند الله الإسلام}(آل عمران: 19), وذلك انطلاقا من مفهوم الحرية الغربية الحديث الذي ساد بيننا والذي هو تعبير عن التمرد والرفض للواقع القائم، والجنوح إلى التغيير والتحديث والتبديل، وإخضاع كل مناحي الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية لنقد وسيطرة العقل الجامح، واتباع معتقدات الآخر وثقافته ونظرياته مهما كانت متصادمة مع هويتنا وحضارتنا، وخطرا على عقيدتنا وشريعتنا.
هذا المفهوم الجديد للحرية، استباح الأفراد والجماعات عبره أن تعتقد ما شاء من المعتقدات دون معرفة حكم الله تعالى في ذلك، وان تنتقل من عقيدة إلى أخرى، وتتصرف حسب رغبتها ونزواتها مهما كان في ذلك خروج عن الجماعة أو شذوذ في التصرف أو انفلات من الأحكام والقوانين، ما يتعذر معه تأمين المصلحة العامة ويسهل بسببه إشاعة المفاسد والأضرار. فهل من الحرية أن يطعن الفرد في دين أمته الذي اعتنقه، فيهدم حدوده ويبدد قواعده؟ وهل يعتبر الخروج من عقيدة التوحيد والفطرة إلى عقيدة الكفر {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}(المائدة: 75) حرية، أو سفها وقصورا في الإدراك، وخللا في العقل واضطرابا في التفكير وتلاعبا بالمقدسات، وهل من الحرية أن يترك هؤلاء يعيثون في الأرض فسادا، ولا يحاكمون باسم الحرية العبثية؟ إن معاقبة المرتدين الذين أمر الله تعالى بعقابهم وأخبر بأنهم {حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}(البقرة: 217) تبقى أمرا واجبا.
وما يزيد الأمر خطورة واستفحالا أن يجهر خصوم الإسلام وأعداؤه اليوم ـ وباسم الحرية العقدية ـ أنه لا حق للمسلمين أن يضعوا قيودا على نشاط المنصرين، حيث لا يسمحون لهم بالدعوة والعمل في أوساط المسلمين، وتعد بعض الدول العلمانية هذا الموقف تدخلا في حرية الاعتقاد، ومسا بمبدإ اختيار الأشخاص للدين الذي يريدونه، هكذا بكل صفاقة. وهنا ننبه إلى أنه يجب عدم الخلط بين الانتماء العقدي والديني للأمة الإسلامية الذي يفرض عليه التزامات وأحكاما، وبين الانتماء الحضاري والسياسي لها الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون.
إننا نحذر من الغزو الصليبي والفكري لعقيدتنا وشريعتنا وأمتنا الإسلامية، التي يعيش شبابها خواء روحيا وفراغا عقديا وانحرافا أخلاقيا، أصبح معه ضعيفا عن مقاومة تيار الغزو الكاسح، حيث بدأ الأمر يستتب للغزاة، بعد أن كان لهم ما أرادوا من تنحية شريعة الله وأحكامه عن حياة المسلمين في مختلف مجالات حياتهم الدنيوية، وأنها أخلاقيات لا تفرض التنفيذ، وانحصرت في عبادة وشعائر تعبدية، وأداء تقليدي خاو من الروح عديم التأثير في الحياة ـ ها هم يسعون للإجهاز على العقيدة وفق منهج مد واستراتيجية محكمة بعيدة المدى طوية النفس، لتنصير الشباب وفتنته عن دينه بالارتداد عن عقيدته ! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما رواه الإمام أحمد ” لتنتقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتفضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة” أحمد في مسنده وابن حيان في صحيحه.
إن مسؤولية العلماء عما انتهى إليه هذا الأمر، عظيمة عند الله، وإن التقاعس عن إيقاف هذا الغزو ومحاربة ما ينشأ عنه من فتن ـ تحت شعار الحرية الشخصية وحقوق الإنسان الدولية ـ لهو أكبر جرم وأعظم جهالة يتستر حولها المفتونون والمتقاعسون، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}(النور: 63) ولنتذكر في هذا المقام قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه >إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن<.
فعلى العلماء ورثة الأنبياء أن يدافعوا عن دينهم وعقيدتهم بالحجة والبرهان، وأن يحموا هذا الدين من الغزو الصليبي الحاقد بما يقضي على الفتنة في مهدها ويصون الأمة الإسلامية في عقيدتها وشريعتها وثقافتها وتحفظها من الاستغراب العقدي. إن أبناء أمتنا الإسلامية وإخواننا في الدين هم في هذه الأيام بحاجة ماسة إلى أن يتذكروا تعاليم شريعتهم ويتبينوا المزالق التي يقودهم لها جهلهم بالدين، وافتتانهم بالشعارات التي يرفعها المغتربون والمتأسلمون ضدا على أنفسهم وعلى تعاليم شريعتهم، ومن حق الإسلام على رجاله أن يبينوا للناس ما جهلوه أو غاب عن عقولهم من أحكامه مع تقادم الزمن وغلبة الأهواء وشيوع الترهات والأباطيل.
هذا الحديث ليس يعني اضطهادا للنفوس ولا مصادرة للحريات، ولكنه إنارة وتبصير بشرع الله فيما أصبحت تعج به حياة المسلمين من مباذل، وتمر به الساحة الإسلامية من غرائب ومنكرات باسم الحرية وتقديس العقل وعبادته، بدل احترامه والاستنارة به، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
——————-
(ü) من كتاب المجلس العلمي الإقليمي بفاس عدد 8.
1 – د. محمد سعيد رمضان البوطي ـ يغالطونك إذ يقولون ص: