ديموقراطيات من مقاسات خاصة


عجيب أمر الديموقراطية في هذا الزمان التي يُراد لها أن تناسب كل المقاسات على اختلاف أشكالها طولاً وعرضا، وارتفاعا وهبوطا، تدخلا وتزويراً، لكن هناك مقاس واحد يرفض القوم أن يجدوا له تناسبا مع هذه الديموقراطية، إنه مقاس اختيار الشعب لمن يمثله حق التمثيل، خاصة إذا كان هذا الشعب ينتمي إلى العالم الإسلامي، أو كان هؤلاء الممثلون يمثلون فعلا نبض الأمة وتاريخها وحضارتها، ويريدون لها -مخلصين- التقدم والازدهار والتنمية.

في قارتنا الإفريقية جرت انتخابات عديدة منذ أن استقلت دولها عن الاستعمار، وكانت النسبة في العديد من هذه الدول تفوق دائما 99% لتبقى المعارضة دائما على الهامش، وحتى حينما أريد لهذه الانتخابات أن تكتسب بعض المصداقية، وأحس أصحاب القرار أن البساط ربما تم سحبه من تحت أقدامهم بفعل الديموقراطية، تنكروا لها من جديد، وأعلنوا أنهم هم الفائزون. وتأتي الوساطات المحلية والعالمية من أجل الوصول إلى حل وسط، فالموالاة والمعارضة شعب واحد في النهاية، وعلى الطرفين أن يتصالحا بعد أن يتنازل كل طرف عن بعض مواقفه المتصلبة.

أما في عالمنا العربي فالديموقراطية لها نكهة خاصة ومقاس من نوع آخر، هناك : قبيل كل انتخابات يتم التضييق على المعارضة حتى تكون الانتخابات نزيهة وشفافة. وهناك : شروط مسبقة من أجل الترشيح لا تتوفر إلا في الذي يمسك العصا بكاملها. وهناك : مرشحون من حزب واحد، اختر أيهما شئت. وقديما قيل في المثل المغربي : ((اللهم لا تخيِّرنا في ضرر)). وهناك : لا يوجد أي شيء من ذلك لا انتخابات ولاهم يحزنون. إلى آخر ما هناك من هناك.

مع اختلاف هذه الأوجه وتضاربها وتناقضها أحيانا، نجد دائما من يجد لكل ذلك مخرجا باسم الديموقراطية في غالب الأحيان، وباسم الرغبة في الاستقرار في بعض الأحيان، أو باسم الأعراف والتقاليد القبلية أحياناً أخرى.

وفق هذه المقاسات المتعددة، كنا نود من القوم أن يجدوا مقاسا مناسبا، لاختيار الشعب الفلسطيني حينما اختار من اختار ليمثله في البرلمان والحكومة. لكن قومنا ومعهم أقوام آخرون أبوا أن يجدوا المقاس المناسب فرفعوا شعار أزمة الديموقراطية التي أصبحت في “خطر”، والخطر يستدعي التحرك، فكان الحصار وكان التجويع، وكانت الإبادة ثم المحرقة، فصفق قومنا بحرارة، ومدوا أيديهم للعدو مصافحين، ولم يمدوا يداً واحدة إلى من اختارهم الشعب.

وكنا نود من قومنا أيضا، أن يتركوا الديموقراطية في تركيا تعبر عن نفسها وتقيس نجاحها بنفسها ولو وفق مقاس العلمانية. لكن قومنا أبَوْا إلا أن يحركوا القضاء ضد الديموقراطية بعد أن استعصت عليهم وتمنعت، ولسان حالهم وحال من ماثلهم يقول :  إما أن نكون نحن الديموقراطيين، وإما الطوفان.

إن أقل ما يقال في مثل هذا المقام أنه إذا كانت الديموقراطية تتسع لكل المقاسات فإنه بالأحرى أن تتسع لمن يختارهم الشعب بحرية وعن جدارة. وإلا فإن شعار الديموقراطية سيغدو فارغا من معناه.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>