مستفادات (2) :
2) الأبْترَ حَقِيقةً هو الذي لَمْ يُخلِّف ورَاءَه عَملاً صالِحاً :
لقد كان كفار قريش يُعزُّون أنفسهم ويُسلُّونها بأنّ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سينْقَطع أثَرُها بعد موْته صلى الله عليه وسلم لأنَّه لا عَقبَ له من الذُّكور يُؤتمنون على دعْوته، ويخلُفونه من بعده، لأن الذي يلد الذكور هو الذي يستمرُّ نَسْلُه، ويستمرّ ذِكْره، ويستمرُّ شرفُه، ويستمرُّ نسَبُه الدمويّ والماليّ والدّعوي… فقال الله عز وجل للشانئين والحانقين والحاقدين على محمد صلى الله عليه وسلم، والمتربِّصين به ريْب المنون.. قال لهم : الأبْتَر في ميزان الله تعالى هو من ماتَ ولمْ يترُكْ أثراً طيِّباً يُخلِّدُ ذِكْرُه من الباقيات الصالحات، والأعمال الصالحات التي تُدِرُّ على صاحبها الحسنات بعد موته، كبناءِ مسجد، أو حفْر بئر، أو بناء معهد علميّ، أو نشْر عِلْم، أو ترْك ولدٍ صالح يدعو له، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة، والآثار الطيبة التي تجعل الدِّين الذي يدْعُو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمراً خالداً إلى يوم القيامة.
ولقد وضح صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله : ((إذا مَاتَ ابنُ آدَم انْقَطَع عَمَلُه إلا مِن ثلاث : صدَقة جارية، أو عِلْم يُنْتَفَعُ به، أوْ وَلَدٍ صالحٍ يَدْعُو له)) ولقد انقطع ذِكْر كلّ أولئك الحاقدين المتربصين، وبقي ذكْر محمد صلى الله عليه وسلم خالداً مخلداً إلى يوم القيامة، ألا ترَاه يُذكَرُ مع الله عز وجل في كل آذان يُرفع في مختلف البقاع والأوقات، ألا يُذْكر محمد فيُصلّي عليه الملايين في كل يوم وليلة؟! وألاَ يُذْكر الصحابة فتترضى عنهم الملايين كل يوم وليلة؟! وألا يذكر العُلَماء الدّعاة فيُترحّم عليهم في كل وقت وحين؟! أهؤلاء هُم البُتْر أم الذين تلحقهم اللعنات من الله عز وجل وكوْنِه وملائكته وعباده كلما ذُكِرُوا مذمومين مذؤومين مدحورين؟!
إن دين الله عز وجل نزَل ليَبْقَى، آمَن به من آمن، وكفر به من كفر.
3) الرسولُ صلى الله عليه وسلم يحافظُ وحْدَهُ على أمْنِ البَيْت الحرام بعد تفْريط قُريشٍ في الأمانَةٍ :
إن الله عزوجل جَعَل البيتَ الحرامَ آمنا مُنْذُ وُضِعَ للعبادة، وكان كُلُّ سكّانه وقُطانه هِم الذين يقومون بحمايته، وكُلّما وقعَ ظلمٌ فيه اجتمع أشرافُ الأُسر وكُرماؤها وتعاونوا على ردِّ المظالم لأهلها، وآخِر مكْرُمةٍ قام فيها سادة قريش برفع الظلم عن زواره وقصّاده هي مكرمة حِلف الفضول الذي اتَّحدَ فيه الشرفاء وتعاهَدُوا على ألا يُظلم بالبَيْتِ أحَدٌ، بلْ أنصفوا من ظُلم آنذاك، وأرغمُوا الظالم على إعطاء حق المظلوم.
لكن بعد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فسَدَتِ الطبائع، وجِحِدتْ الحقوق بدون نكير، فكان أن وقَعت بِضاعةُ ((الإراشِي)) الضعيف الغريب في يد أبي جَهْل الظالم، فماطَلَه، وماطلهُ، وماطله، انتظاراً لانقضاء الموسم، وذهاب الإراشي بعد القنوط واليأس.
فاستنجَدَ بكبار القوم ولكنهم لسفاهتهم أحَالُوه على محمد صلى الله عليه وسلم ليتفرَّجُو على ما يُمكِن أن يقع بين محمد صلى الله عليه وسلم وأعْدَى أعدائه، وعندما جاء المظلوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهض معه مُسْرعاً -معه الله عز وجل وملائكته- فذهب إلى دار أبي جهل وأمَرَه بصرامةٍ وحزْم بإعطاء حق المظلوم، فامتثل للأمْر، ومكّن صاحب الحق من حقه.
ففي القصة دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانَ أمّة وحْده في إقامة دعائم الإسلام، ورفع الظلم عن الأنام. وعندما انتقل إلى الرفيق الأعلى بقيت أمانة إقامة العَدْل ورفع الظلم في يد أمّتِه من بعده، فهي خَيْر من يُجَابه الطغيان، ويُقيم مجالس الأمْن والعدل لإسعاد الإنسان، لو فقهت مسؤوليتها، وأدّت أمانة دين ربها!!
4) الهالكُون لا نصيبَ لهُم في التحدِّي، ولكنّ نَصِيبَهُم في التردّى :
لم يكن في الرّعيل الأول أيُّ نوعٍ من أنواع الهالكين، ولذلك كانوا نماذج في التمسّك بالحق، والتحدّى بالحق، فصَدقهُم الله تعالى وحقَّق على أيديهم الحقَّ الذي امتدّ نوره من زمانهم إلى زماننا، وسوف يبقى ممتدّاً بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة، ولكن اللّه عز وجل أعطانا أمثلةً هائكةً من الأمم السابقة علينا تحذيراً من السقوط في الفتن التي سقطوا فيها :
> فهؤلاء بنوا إسرائيل ظَلَّلَهم الله عز وجل بالغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم اثنَتَيْ عشرة عينا من الحجر الصّلد، ولكنهم زهدوا في كل ذلك، واشتاقوا إلى البَقْل والفول والعدس والبصل، فأعطاهم ما طلبوا مع ضرْب الذُّلّ والمسكنة عليهم، والبوْءِ بغضب من الله {ذَلِك بأنُّهُم كانُوا يكْفُرون بآياتِ اللّه ويَقْتُلون النّبِيئِين بغَيْر الحقِّ ذَلِك بِما عَصَوْا وكَانُوا يعْتَدُون}(البقرة : 60).
> وهم أنفسهم رأوا بأعُينِهم كيف أغرق الله عز وجل عَدُوّهم في البحر، ولكنهم بمجرد ما رأوا قوماً يعْكُفون على أصنام لهم، {قَالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لنَا إِلَهاً كَما لَهُم آلِهَة}(الأعراف : 138) بلْ أكْثرُ من ذلك هم الذين عكفوا على عبادة العجل الذي أخرجه إليهم السامريّ بمجرَّدِ ما غاب عنهم نبيُّ الله موسى عليه السلام لتَلَقِّي الوحْي من ربه، و{قَالُوا لَنْ نَبْرح علَيْه عاكِفِين حتَّى يرْجِع إليْنا مُوسَى}(طه : 90) فكانوا بذلك مثلاً في النِّفاق وسُرعة السقوط والإخلاد للأرض.
> ومن أحْفاد أولئك قَصّ الله عز وجل علينا قصّة واحِدٍ منهم وقَعَ له من النكوص في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع لقُدَامَى أجداده، قال تعالى فيه {ومِنهُم مّنْ عَاهَد اللّه لَئِن آتَانَا مِن فَضْلِه لنَصَّدَّقَنّ ولنُكُونَنَّ من الصّالِحِين فَلمَّا آتَاهُم مِنْ فضْلِه بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُعْرِضُون فأعْقَبَهُم نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم إلى يوْم يلْقَوْنه بِما أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوه وبما كانُوا يكْذِبُون}(التوبة : 78).
> لكن القصة العجيبة هي قصةُ رجُل آتاه الله علماً، وكساه فضلا، وأعطاه الفرصة الكاملة للهدى والارتفاع إلى آفاق الأنوار، ونسائم الأرواح، ولكنه انحرف وانهار، وانْسلخ من نعمة الله، فتعَرَّى عن الهُدَى الذي كساه الله عز وجل به، فاتّبع هواه وأصْبح كالكلب الذي لا ينقطع عن اللّهاث، قال تعالى : {واتْلُ عَلَىْهم نَبَأَ الذِي آتَيْناهُ آيَاتِنَا فانْسَلَخَ مِنْها فأتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فكانَ من الغَاوِين ولوْ شِئنَا لرَفَعْناه بِها ولكِنَّه أخْلَدَ إلى الأرْض واتّبعَ هَواهُ فمَثَلُه كمَثَل الكلْبِ إنْ تحْمِل عليْه يلْهَثْ أو تتْرُكْه يلْهثْ ذلك مثَلُ القوْم الذِين كَذَّبُوا بآيَاتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لعلَّهُم يتَفَكّرُون}(الأعراف : 175- 176).
إنها قصةٌ عجيبةٌ لا أمَان من أن تتكرّر، فيَرى المتفكِّر المتفحِّص الكثير من المنهارين المنسلخين عن لباس الهدى، إلى لباس الهوى لِقاء لعاعَةٍ من الدّنيا، وبريقٍ من الإعجاباتِ والتصفيقات سرعان ما تذهب لذتها يوم يحِقُّ الحقُّ، ويقوم التحدِّي الحقّ بالدين الحق، فاللهم كما هديتنا بفضلك فاعْصِمْنا بفضلك من الميلان والزيغان، آمين.