ظلت الأسرة في المجتمعات المسلمة، هدفا مفضلا للغرب ضمن استراتيجيته التدميرية بعيدة المدى، وذلك باعتبارها مؤسسة المجتمع الأولى ونواته الصلبة، ومناط قوته واستمراره في الوجود، ولم تجد هذه المخططات نقطة ارتكاز لها من أجل النفاذ إلى عمق الكيان الأسري -ومن ثمّ إلى المجتمع برمّته- أفضل من المرأة، ذلك أن وجودها ضمن الأسرة وجود حيوي، وموقعها منها موقع القلب النابض والشريان الذي يتدفق بالخير في عروق المجتمع وشبكته الواسعة، من خلال ما تبثه من القيم البانية والمؤسِّسة للنسيج الفكري والوجداني، الذي يتغذى منه الأفراد، فتتشكل منه كياناتهم الشخصية. وعلى الرغم ممّا ران على وضعية المرأة من عوامل التخلف والاستضعاف والوهن، نتيجة الانسلاخ من مقتضيات الفهم الصحيح لشريعة الإسلام، وما تفرضه من قيم وأخلاق وضوابط تنظم علاقة الرجال بالنساء، أقول على الرغم من كل ذلك، ظلت المرأة حارسة أمينة على الأسرة تهب حياتها وجهدها، وتلقي بكل ثقلها في مصلحة الأسرة ولتحقيق سعادتها وضمان تماسكها. كل ذلك في تفان وإخلاص ونكران ذات، هذه الحقيقة يدركها الذين واكبوا الحياة الاجتماعية للأسرة منذ مطالع القرن العشرين الذي يوشك أن ينصرم. إنّ الذين أدركوا أواسط هذه القرن أدركوا ملامح مشرقة لحياة الأسرة المتلاحمة المتضامنة، وشاهدوا ضمنها صوراً جميلة لعطاء المرأة وتضحياتها، ولمسوا عن قرب فيض مشاعرها ودفق حنانها الذي كانت تغمر به أفراد الأسرة جميعا، فيجد كل واحد منهم قسطه من الغذاء الروحي والعاطفي الذي يخترق به الحواجز ويواجه الصعاب، ويثبت في معركة الحياة.
لقد ساد هذا المشهد عندما كانت البيئة الاجتماعية محتفظة ببقية من الطهر والنقاء، تمثل بعض سر الإسلام المنبثق من عقيدته وأخلاقه. كانت الأسرة يومها تشكل قلعة حصينة تتحطم عليها حراب الأعداء وتتكسر نصالهم.
ولكن، ومنذ أن بدأ بيض الاستعمار الثقافي يُفقس في العقول، وجراثيمه تتناسل في كيان الأمة، بدأنا نشاهد حصونا تتهاوى، الواحد تلو الآخر.
ولقد أدرك دهاقنة الاستعمار، بما أوتوا من مكر ودهاء، خطورة الرسالة التي تحملها الأسرة في مجال التحصين وحماية المجتمع والحفاظ على مكاسب الخير فيه، فأعدوا المخططات الرهيبة لهدمها بعد نخرها من الداخل، فكان ما كان من أساليب الاختراق والاحتواء التي مورست بمنهجية وإحكام.
وغير خاف على ذوي الألباب أن أول عامل من عوامل الاختراق تمثل في الاحتكاك المباشر بين المسلمين وبين النمط الغربي الاستعماري للحياة، الذي من أبرز سماته الانسلاخ من الدين وقطع الصلة بالسماء، وفي مقابل ذلك، الالتصاق بالأرض وإرواء الغرائز وإشباع نهمة الإنسان إلى متع الدنيا ولذائذها. وكان من ثمرات ذلك الانسلاخ تحكم الفوضى في علاقة الرجل بالمرأة، بعد أن خرجت هذه من حصن الأسرة، في ظروف مأساوية ليزج بها في أتون المنشآت الصناعية أو غياهب أروقة المؤسسات الإدارية، كبديل بائس عن قيامها بوظيفة الأمومة وإعداد الرجال والنساء، وكانت آلية التقليد المتولدة عن الفراغ الفكري وعقدة الشعور بالنقص اللذين خلفا هزيمة نفسية منكرة، هي وراء ما وقع في المرحلة الأولى لتقمص شخصية المستعمر، من نقل لبعض ممارسات الأجنبي وأساليبه في الحياة.
> غير أن عملية الاختراق في تجلياتها الكبرى والصارخة، إنّما تحققت بسبب الغزو ا لثقافي المنهجي الذي اتخذ له أساليب ومناهج غاية في الدقة والفعالية، وأسلحة متطورة لا تثير زوابع ولا غبارا، ولكنها تصيّر الجنان قفارا، إنها تقتل النفوس والأرواح وتحافظ على الأشباح، وهي في ذلك أشبه ما تكون بالقنبلة التي تستهدف الإنسان دون البنيان.
> وإذا كانت وسائل الغزو الثقافي عديدة ومتنوعة -كما ذكرت- فإن أبرزها وأخطرها على الإطلاق، فيالق المغربين من بني جلدتنا، الذين صنعهم الاستعمار على عينه، وكلأهم بتعهده ورعايته، عندما أفرغهم من كل ما يربطهم بعقيدة أمتهم، وعصر نفوسهم عصراً، حتى لم يعد فيها أدنى شيء يثير فيهم إحساساً بالولاء لميراثهم الحضاري، بل وعلى العكس من ذلك، زرع في نفوسهم حقداً على كل ما يمت بصلة لدين أمتهم وقيمها الأخلاقية السامية، ودججهم بأسلحة الطعن ودربهم على أقصى ما يصل إليه إنسان مارق من أصناف الكيد والخداع. لقد أصبح مجتمعنا بمثابة بحيرة من الماء تتلقى في كل يوم أكواما من القاذورات والغازات السّامّة وإنّ العقلاء يدركون بكل وضوح، مدى الصعوبة التي أصبح يعانيها الأفراد وتعانيها الأسرة في ظل هذه الظروف، إنّ حالات من التسمم القاتل تحيق بمجتمعنا المسلم وتهدده بالإبادة والفناء -وما لم تتحرك أجهزة مناعة المجتمع لمواجهة الجراثيم الفتاكة والقضاء عليها قبل فوات الأوان، فإن بحيرة المجتمع، ستتحول لا محالة إلى مستنقع آسن تتعرض كل مخلوقاته للموت أو الكساح.
> إنه لا يشك عاقل في أن جهاز المناعة في المجتمع الإسلامي الذي يشكل طليعة الدفاع عنه وحمايته من كل عدوان، إنّما هو فئة العلماء، علماء الشريعة الذين حملهم الله تعالى أمانة البلاغ وأمانة التصدي للأفاكين والمشعوذين الذين يسعون في الأرض فساداً، قال تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران : 104)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))(رواه البخاري والترمذي).
غير أن فئة العلماء كطليعة دفاعية حامية لبيضة الإسلام من أن تنتهك، لا تجْزئها مواقفها وحملاتها الموسمية، فلا مناص لها من أن تكون جهازاً تثقيفيا واسع النطاق يتغلغل في أوساط المجتمع ويساهم بفعالية في صياغة العقول وصياغة الرأي العام ومواقفه على هدي الإسلام، بشكل يجعله في مستوى النهوض بمهامه الكبرى في مواجهة التحديات الحضارية المفروضة على الأمة المسلمة.
فلقد بات من المسلمات أن تغيير العقلية ونمط التفكير لدى المسلمين هو وحده الكفيل بإنجاح برامج التدمير ومخططات التكفير المنهجي التي دأبت جهات عديدة على تجريبها وتنفيذها في مجتمعاتنا الإسلامية.
وقد ازدادت هذه المخططات حدة وشراسة منذ أن أحكم النظام العالمي الجديد قبضته على العالم، وأصبح دهاقنته يحركون دواليب الفكر والسياسة مباشرة أو من وراء ستار، وليس خافيا عن الكثيرين أن من أبرز الوسائل التييوظفها “النظام العالمي الجديد” للسيطرة على الشعوب وقولبتها في قالب واحد ووحيد سموه بالعولمة وهو في الحقيقة عولبة وتعليب، إقامة المؤتمرات “العالمية”، من قبيل “مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية” و”مؤتمر بكين للمرأة” اللذين أفرزا مقررات وتوصيات شاذة تكرس أوضاع الشذوذ وتدعو إلى إتلاف البقية الباقية من الأخلاق والقيم التي لا تقوم للحضارة الإنسانية بدونها قائمة، والذين تابعوا من العقلاء مجريات هذه المؤتمرات أيقنوا أن بيت القصيد في أهدافها هو تحطيم بناء الأسرة من خلال تفجير مقوماتها العقدية والتشريعية، لأنه إذا تحقق ذلك، أصبح كل شيء بعد ذلك سهلاً، لأن جهاز المناعة إذا خُرب وحُطم، أصبح الاختراق ميسوراً لكل أنواع الجراثيم والفيروسات، وأصبح جسم المجتمع مستباحاً لكل العلل والأدواء، وبلغة السفينة التي شبه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع، تمتلئ السفينة بالثقوب، فتتسرب إليها المياه، فيكون مصير الغرق مصيرا محتوماً لا مفر منه.
> وإذا كانت الأفكار والتوصيات التي تتمخض عنها المؤتمرات العالمية، قد انحصرت في دائرة النقاش والمساجلات الفكرية بين النخب الثقافية، والتي يحسمها أصحاب الفكر السديد والمنطق الأقوى الموصول برصيد الفطرة ومعين الحقيقة، إذا كان ذلك قد حصل في السابق، فإن دهاقنة العولمة يرون الآن أن الظروف أصبحت مناسبة والأجواء مهيأة، لإنزال تلك الأفكار والتوصيات إلى عالم الواقع والتطبيق، لتصبح قواعد ممارسة وسلوك تحكم علاقات الناس وتؤطر حياتهم.
وفي هذا السياق اندرجت الخطة المدعاة بـ” الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” التي أرادت الفئة المغَرّبة تسويقها بين الأسر المغربية، تحت ذريعة دمج المرأة في التنمية. ومن الغريب العجيب، أن المطلع على محتويات هذه الخطة وبنودها، بوعي وموضوعية، يتبين له بشكل سافر، أنها بمثابة القنابلالمدمِّرة التي تنسف الأسر من أساسها.
وإن المرء لتلفه الحيرة وهو ينتهي بعد قراءة الخطة، إلى استنتاج جازم مفاده أن مفهوم التنمية قد اتخذ منحًى عكسيا عند أصحاب الخطة، إنه التخلف والارتكاس، وإزالة الحدود والفواصل بين البهيمة والإنسان، وحتى إذا أردنا الاحتفاظ بلفظ “التنمية” الذي تلفعت بردائه الخطة، فإنه لا مناص من فك لغزه بالتأويل، إنها تنمية الهبوط والانحدار، إنها خطةٌ لدمج المرأة وغمسها -ومعها الأسرة والمجتمع- في غيابة جبٍّ ملؤه العقارب والحيات، ويكفي استنطاق لفظ “الدمج” لندرك الحمولة التشيئيية التي يختزنها، وليحصل لدينا الاقتناع، بأن وازعا لا شعوريا يحرك أصحاب الخطة إلى اتخاذ المرأة مطية لمآرب رخيصة خليق بالمرأة الحرة العاقلة أن تحتج عليها وترفضها ولسان حالها يقول : ((تجوع المرأة الحرّة ولا تأكل من ثديها)).
وإنه من حق المرء العاقل أن يتساءل وهو يواكب هذه المفتنة العمياء أية حدود تفصل عند أصحابها بين التنمية والتعمية؟