ذكرى مولد الرسول: واجبنا نحوها


< تعود علينا ذكرى مولد خير الأنام، إمام الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والأمة المسلمة في حال سيئة ووضع مشين، فهي مفرقة الصف ممزقة الكلمة، مقاليدها بيد أعدائها من اليهود والنصارى يشمتون بها، ويذيقونها ألوان الذل والهوان، وكل ذلك لا يرضي الله ولا رسوله. لقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة وكشف الغمة ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته مقالة الناصح الأمين: +تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا،: كتاب الله وسنتي، عضوا عليها بالنواجذ؛ غير أننا ما حفظنا الأمانة، ولا رعينا النصيحة، فكانت النتيجة هي هذا التيه وهذا الضياع الذي يبتلعنا كالتنين، ويمزق أشلاء جسدنا في صحراء الحياة، لتفترسها قطعان الكلاب والذئاب، وتنهشها الخنازير، وتنعق حولها الغربان.

< تعود هذه الذكرى الطيبة لتحرك وجداننا الخامل وعقلنا الراكد، لتبعث فينا مكامن الأمل نحو المستقبل، لنشمر عن سواعد الجد ونزيح عن كياننا الذي أثقلته عهود الانكسار، طبقات الران، وننفض عنه ركام الغبار، لنعود من رحلة التيه والغربة، إلى ذاتنا التي غيبنا عنها كيد الكائدين ومكر الماكرين.

< إن من قدر هذه الأمة أنها تتأبى على الإبادة والفناء الحضاري، إنها قد تتراخى، وتتعرض للضعف والتخدير، ولكنها لا تموت بحال من الأحوال. إن من شأن هذه الذكرى الغالية أن تنفث في روع هذه الأمة روح الانبعاث وتؤجج فيها جذوة المجالدة والتحدي لأشد المخاطر وأعتى الأعاصير، إنها أشبه بطائر الفنيق الأسطوري الذي ينهض من بين ثنايا الرماد، فيتجدد فيه نبض الحياة، والتطلع إلى التحليق في أعالي السماء.

< إن من مقتضيات الاحتفاء الناضج والنافع بهذه الذكرى، أن نستحضر الأوضاع التي كانت سائدة في دنيا الناس حينما بزغ على العالمين نور هذا النبي الأمين.

وأسوق هنا وصفا لتلك الحالة وتصويرا لتلك الأوضاع بريشة أحد العلماء الربانيين العالم، المؤرخ والأديب الكبير الشيخ أبي الحسن الحسني الندوي في كتابه الفريد: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟” يقول رحمه الله: متحدثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وحين بعثته: ((رأى مجتمعا هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعيا والخصم الجائر قاضيا، وأصبح المجرم فيه سعيدا حظيا، والصالح محروما شقيا، لا أنكرَ في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرفَ من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك. رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد.

< رأى ملوكا اتخذوا بلاد الله دولا وعباد الله خولا. ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا أربابا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.

< رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكا وهمجية والجود تبذرا وإسرافا، والأنفة حمية جاهلية والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات. رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة.

< رأى الأمم قطعانا من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ويجرح به أولاده وإخوانه.؛ اهـ.

< لقد استطاع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مكلوءا بعناية ربه سبحانه وتعالى مؤيدا بوحيه وإمداده، استطاع أن يصنع خميرة الخير، التي ربت، فكان منها ترياق للبشرية مما ترسب في كيانها من سموم، استطاع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن يصنع كتيبة الإصلاح التي حررت الإنسان من ذل العبودية ومخازي التحلل والفساد. فماذا عسى أمته فاعلة في إخراج عالم اليوم وقد عاد أدراجه ليتلبس بنفس الصفات والأوضاع التي سادت العالم، يوم بعث رحمة للناس كافة.؟؟

< إن الأمة المسلمة قادرة على حمل أمانة الإصلاح ورسالة البناء من جديد، ولكن شريطة أن تعود إلى ذاتها وتتصالح مع جوهرها. ولن تتحقق العودة إلى الذات والتصالح مع الجوهر إلا عبر التأسي والاقتداء بهذا النبي الكريم والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.

ولن يتحقق مطلب التأسي إلا بعد حصول المعرفة الدقيقة الواعية بسيرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم. ومن خصائص هذه الأمة وميزتها على سائر الأمم، أن سيرة نبيها محفوظة بدقائقها وتفاصيلها منذ الميلاد حتى الوفاة، فكأن الذي يطالعها يرى شريطا مشخصا صادقا، ينطق بما حفلت به حياته صلى الله عليه وسلم من معاني السمو وملاحم الجهاد اليومي التي صاغ من خلالها ذلك الجيل الفريد الذي لم يعرف له التاريخ مثيلا على مدى أزمانه المتطاولة جيل صنع الأمجاد، وجسد معاني الحق والخير والجمال في أروع صورها وأعلى مستوياتها، فبات لأجل ذلك نموذجا أسمى للاقتداء،

إن طريق الأمة لاسترجاع مكانتها في هذا العالم الذي تتخطفه الشياطين، إنما هو تصحيح علاقتها بالله عز وجل، التي لن تتم إلا من خلال تصحيح علاقة المحبة بهذا النبي الكريم، الذي يخاطبه ربه الكريم بقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول، فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}(آل عمران: 31، 32).

إن طريق العز لهذه الأمة، يمر حتما عبر المحبة لهذا النبي الكريم، وعبر اتخاذه إسوة تؤتسى ومثالا يحتذى، غير أنه لا سبيل إلى بلوغ هذا، المطلب العزيز، إلا بالاطلاع على سيرة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بنية الاتباع والاقتداء، إلا بالتعرف على كل تصرفاته وأحواله، شابا طاهرا نقيا، ورسولا نبيا، وزوجا رحيما، ووالدا حانيا، وعابدا تقيا، خاشعا باكيا، وقائدا سياسيا ذكيا، وقائدا عسكريا، بلغ الغاية في الشجاعة، فأين نحن من هذه المعرفة الشاملة بسيرة هذا النبي الطاهر؟! أين شبابنا ورجالنا ونساؤنا من ذلك النبع الصافي؟ إن محاولات رعناء ومؤامرات سوداء حيكت ودبرت بالليل والنهار، لإبعاد الأمة عن ذلك النبع الصافي الذي يمثل الحقيقة والطهر، وللزج بها بالمقابل في مستنقعات أفكار ومذاهب وشخصيات، تمجد القذارة، وتروج للخنا وتسعى إلى استكمال سلخ الإنسان من فطرته وآدميته، لتدمجه في فصيلة القرود والخنازير والكلاب.

< أما الطريق الأول، فهو طريق الطعن في النبي الكريم للنيل من قداسته في نفوس المسلمين، وذلك بإغراء السفهاء وحثالة الناس، بالتطاول على مقامه الكريم عليه الصلاة والسلام بالسب والشتم والافتراء، وقد شارك في هذه المهمة القذرة ألسنة حداد من الغرب، تنفث أحقاد الصليبيين واليهود، المتراكمة عبر الحقب والعهود، كما يشارك فيها بكل نذالة، شرذمة من مرضى القلوب، من بني جلدتنا، من اللقطاء فكريا وثقافيا، ممن استحكمت العقد من كياناتهم الخائرة المهزوزة، فوظفوا أقلامهم الخرقاء في ممارسة الزور والبهتان، والانتقاص من السنة الشريفة والسيرة الطاهرة، عبر تشويه من نقلوها من الصحابة الكرام والعلماء الأعلام. فهذا يشكك في أبي هريرة الصحابي الجليل رضي الله عنه وذاك يطعن في البخاري رضي الله عنه أمير المؤمنين في الحديث، رحمه الله تعالى، وهذه تجند شعرها الرخيص للنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال الطعن في حديثه الشريف، إلى غير ذلك من صور البغي والعدوان على حرمة هذا الدين، ومن نقلوه إلينا بكل صدق وأمانة.

< أما الطريق الثاني في محاولة إبعاد الأجيال الناشئة عن هذا الرسول الكريم والنبي الأمين عليه الصلاة والسلام، فهو طريق نصب البدائل التافهة والنماذج الرخيصة في حياة الشباب، واتخاذ أشد الأساليب مكرا لإغرائهم بحبها والتعلق بها، وجعل تقمصها والتشبه بها منتهى الآمال وأقصى المطلوب.

< فبعد أن عملت دوائر الإعلام على إقناع الشباب بأن أغلى قيمة في هذه الدنيا، إنما هو المتاع المادي وما يتعلق به من شهرة زائفة، وبعد أن شوهت مفاهيم قيم سامية حفظت عبر القرون، عكفت على إحلال مفاهيم وتصورات بديلة، نضرب مثالا على ذلك مفهوم البطولة، فبعد أن كان سائدا في الأذهان، أنها تتعلق بالنجدة والفروسية الحقة في ميادين الجهاد، واسترخاص الأرواح في سبيل الله، حتى تصان كرامة الإنسان وفطرته، أريد لهذه البطولة أن تقترن في أذهان الشباب بإنجازات تافهة تختزل في عطاءات تشتغل فيها الأجسام دون الأرواح. وتقتصر الحوافز فيها على مطالب الدنيا دون مطالب الآخرة.

لقد عمل الإعلام الماكر على صناعة رموز هجينة وهيأ لها الشروط والأسباب لتملأ على الشباب فكرهم وتستغرق وجدانهم، وتحجب عن أبصارهم وبصائرهم الرموز الحقة والنماذج الأصيلة.

فالرموز التي ينبغي أن تتعلق بها الأحلام، وتنفق في التعلق بها والاحتذاء بها الشهور والأعوام، هي رموز الفن الهابط، من غناء رخيص وتمثيل ماجن.

< ولقد انضم إلى الإعلام في تنفيذ فصول هذه المؤامرة الرهيبة، منظومات التعليم في أغلب البلاد الإسلامية، وذلك بتضييق المساحة التي تتعلق بتدريس سيرة الرسول الكريم، أو بتغييبها كلية..، وهذا وأيم الحق، هو عين القتل والإبادة في حق الأمة المسلمة.

< إن من حقنا أن نطالب باستماتة، في حصول ناشئتنا على قسطها الكامل من معرفة دينها بما فيه سيرة نبيها التي تمثل النموذج العملي التطبيقي له، في ظل حرمانها من ذلك، وإلى أن يتحقق ذلك، ستظل الأجيال الناشئة في خطر من أمرها معرضة للجوائح، قابلة للتحريف والتذويب في بوتقة الشر التي صاغها الغرب بإحكام ويرعاها زعماء الفوضى العالمية، وأعداء الحق والشعوب والمتجبرون الممعنون في البطش والطغيان.

< يقول الله سبحانه وتعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}(الأنبياء: 18).

إنه من حسن الحظ أن هذا الفضاء الإعلامي الشاسع الذي يسبح في سديم من الفساد، قد اخترقته قنوات فضائية نافعة تبشر بقيم الخير والصلاح، وإن من واجب كل مسلم أن يتجه إلى الانتفاع بها وأن يدعو إلى ذلك، فهناك من هذه الفضائيات ما يخصص مساحة هامة للإسلام ولسيرة خير الأنام..

< وعلى الآباء والأمهات أن يتعهدوا أبناءهم في مرحلة الطفولة الأولى، فيرووا لهم سيرة نبيهم، وعلى الأسر أن تعقد مجالس لتدارس هذه السيرة العطرة ليتفيأوا ظلالها ويقتبسوا أنوارها وينشأوا على قيمها وأخلاقها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>