خلال يومي 26 و27 صفر الخير 1429 الموافق ل 5 و 6 مارس 2008 نظمت الرابطة المحمدية للعلماء ندوة دولية في موضوع :”مناهج الاستمداد من الوحي” بمدينة تطوان . فما هي مجمل الإشكالات ؟ وما هي أهم المعالجات؟ وما هي أبرز النتائج والخلاصات ؟
أولا- سياقات وإشكالات:
أ ـ سياقات :جاءت أعمال الندوة في سياق الاهتمام المتزايد بمسألة البحث عن كيفية وصل الأمة بربها وبشرع الله عز وجل وسبل إيجاد الحلول لكثير من المشاكل التي يتخبط فيها الإنسان والمجتمع المعاصرين عامة والأمة المسلمة خاصة ومحاولة تلمس الوحي الرباني المتمثل في القرآن والسنة لاستمداد المناهج من هذا الوحي الرباني لإقامة تصور سليم لمختلف قضايا الإنسان المعرفية والسلوكية والوجدانية وفي مختلف اتجاهات علاقاته مع ربه، ومع نفسه، وأخيه الإنسان، ومع الكون والحياة والمصير، كما يأتي في سياق بعث دور العلماء في الإصلاح والتوجيه.
وتركيز الندوة على مسألة المنهج يأتي من كون مفهوم المنهج يحيل إلى جانبين: جانب عملي تطبيقي وهو المتعلق بالمنهج من حيث هو مجموع الآليات المتضافرة للكشف عن الحقائق المعرفية في مجالاتها المتعددة والمتنوعة، وجانب نظري وهو المتعلق بالمنهجية من حيث هي الإطارات المرجعية والنماذج المعرفية “البرديجمات” التي تقوم عليها المناهج وتتوحد ضمن المنهجية بنظام رؤيوي واحد.(ورقة برنامج الندوة، ص:2)
وبناء على هذا التمييز بين الجانبين سعت أعمال الندوة إلى محاولة تلمس نوعين من الاستمداد المنهجي: أولهما منهج الاستمداد من الوحي في تجربة الأمة والثاني استمداد المنهج لواقع الأمة المسلمة المعاصرة.
ب ـ إشكالات :سعت الندوة بعروضها ومناقشاتها إلى الإجابة عن إشكالات عدة من قبيل : كيف يمكن الاسترشاد بالمداخل اللغوية والمصطلحية والمفهومية في الاستمداد من الوحي؟وكيف يمكن تأسيس مناهج للدراسات اللغوية والمصطلحية والمفهومية للوحي الرباني من شأنها تحقيق الفهم السليم بقضايا الوحي تجمع بين الألفاظ والمعاني وبين المباني والمقاصد؟ وما السبيل للاستفادة من إيجابيات التجربة التاريخية للأمة في هذا الجانب وتجاوز سلبيات التعامل اللغوي القاصر والتوظيف المذهبي الضيق الذي شاب هذه التجربة وانعكس عليها سلبا فأدى إلى انحسار عطاء المسلمين المنهجي الذي أسهم في جوانبه المشرقة في هذه الدراسات اللغوية والمصطلحية في بناء علوم إسلامية لها خصوصياتها المعرفية والمنهجية المستمدة من الوحي؟ وما هي طبيعة مناهج الاستنباط والاستدلال التي استرشدت بها الأمة في تجربتها التاريخية في استلهام الوحي والاستمداد منه ؟ وكيف استثمرت الأمة أبعاد هذه المناهج تأويلا وتدليلا واستدلالا؟ وما هي آثار الاختلاف في هذه المناهج وأدواتها التي مالت ـ في مراحل تاريخية معينة ـ إلى التجزيء والتبعيض، دون الالتفات إلى البعد النسقي والتكاملي، على انحسار هذه التجربة وإعاقتها ؟ وكيف يمكن للأمة اليوم أن تتجاوز عوائق الاختلاف التاريخية والمذهبية وعوائق التجزيء والتبعيض واستئناف مسيرة التجديد انطلاقا من محاولة تكوين معالم منهج تفسيري يقوم على استلهام الوحدة النسقية للوحي تصورا ومنهاجا وغاية ؟ وما هي معالم هذه الرؤية النسقية للوحي الكامنة في نصوصه والتي يرسمها للإنسان من أجل الاهتداء بها في قراءته للكون المنظور من حوله وقراءته للكتاب المنزل إليه؟ وما هي آثار هذه الرؤية المنهاجية القرآنية في تخليص الإنسان المعاصر من تخبطاته وأخطائه في حق نفسه وفي حق خالقه وفي حق الكون والحياة ؟
ثانيا- مضامين ومعالجـات:
انطلقت أعمال الندوة بجملة من الكلمات الافتتاحية التي حاولت إبراز أهمية الندوة وقيمتها المعرفية ومدى الحاجة إليها لاستئناف مسيرة الأمة الحضارية انطلاقا من ثوابتها ومن رسالتها، ومدى حاجة الإنسان المعاصر إلى استلهام مناهج تفكيره وتعبيره وتدبيره من القرآن الكريم منهجا ومنهجية.
وافتتحت الندوة بمحاضرة توجيهية للأستاذ الشاهد البوشيخي تحت عنوان “مصطلح الأمة بين الإقامة والتقويم والاستقامة” حدد في بدايتها القصد من استعماله لهذه المفاهيم في العنوان وبين أن الأمة في مسيرتها التفاعلية التاريخية مع الوحي والواقع وجدت نفسها أمام ثلاثة نماذج من المصطلحات : مصطلح أصل وهو مصطلح الشرع المستعمل في نصوصه، ومصطلح فرع متولد عن المصطلح الأصل انطلاقا من محاولة الأمة فهم نصوص الوحي، ومصطلح وافد على الأمة من خلال تفاعلها الإيجابي مع الأمم الأخرى ذات الأصول المباينة للأمة. وفي هذا السياق أبرز أن مصطلح الأمة الأصلي يحتاج إلى إقامته حق الإقامة تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا وفي جميع ما يتعلق بالإنسان ومجالات حياته وعلاقاته لأن مصدر هذا المصطلح الأصل هو الله، أما المصطلح الفرع الذي نتج عن تجربة الأمة لفهم الوحي( العلوم الإسلامية) فقد شابته ـ على ما فيه من جهود مشرقة ـ بعض مظاهر النقص والقصور تمثلت فيما انتهت إليه من التجزيء والتبعيض والانقطاع عن الأصول والاكتفاء بالفروع واجتهادات إنسان قرون التبعيض، لذلك فإن هذا النوع من المصطلح يحتاج إلى التقويم والتشذيب والتهذيب والمراجعة والعرض من جديد على ميزان المصطلح الأصل.أما المصطلح الوافد (علوم اليونان والفرس وعلوم الغرب المعاصر) فيحتاج في قبوله واستعماله إلى بحثه وتمحيصه وإثبات براءته المعرفية و إجرائيته العملية والنفعية لأن الأصل فيه أنه معوج ونابت في بيئة غير بيئة الأمة القرآنية ولذلك كانت الحاجة ملحة لاستقامته. إلى جانب هذا بين الأستاذ المحاضر شروط وضوابط التعامل مع كل صنف من المصطلحات إقامة وتقويما واستقامة حتى تحقق الأمة شهودها وشهادتها على العالمين في العلوم الشرعية والإنسانية والكونية انطلاقا من الاستمداد من الوحي والتفاعل المتبصر مع الواقع والآخر.
ولتحقيق معالجة منهجية قاصدة لمختلف الإشكالات المذكورة أعلاه تمحورت أعمال الندوة في محاور أربعة:
> المحور الأول: ركز على تناول مسألة “المداخل اللغوية والمصطلحية والمفاهيمية للاستمداد من الوحي” فبينت الأستاذة فريدة زمرد من دار الحديث الحسنية أن تفسير القرآن الكريم في تاريخ الأمة غلب عليه التوجيه المذهبي(فقها وكلاما وتصوفا) حيث هيمنت قيمة مذهب المفسِّر على حساب النص المفسَّر ويحتاج اليوم من أجل تخليصه من ثقل تلك الآثار المذهبية إلى اعتماد الدراسة المصطلحية على اعتبار أن المصطلحات ودراساتها تعتبر مفاتيح العلوم والمداخل الطبيعية لها وهي القمينة بإعادة الاعتبار للنص المفسَّر وتلقيه بالوجه الذي يحقق تأثير هُداه في الإنسان وواقعه الاجتماعي. ومن جانبه بين الدكتور عبد الحميد العلمي المشاكل التي يسببها الاكتفاء بالتحليل اللغوي في بعده الإجرائي الصرف دون الالتفات إلى المقاصد الشرعية، لأن فهم الحطاب الشرعي كثيرا ما يساء فهمه إذا ما اكتفي بالدراسة اللغوية دون تحصيل مقاصده واستشراف غاياته. كما حاول الأستاذ عبد النبي الدكير أن يؤسس معالم منهج بياني ينطلق من نظرية نحو العلامة، معتبرا الحرف قاعدة الانطلاق في التحليل اللغوي العربي ذلك التحليل الدلالي الذي يرتبط فيه الحرف بعلامته النحوية ارتباطا ماهويا يوجه إلى دلالته ضرورة. في حين أكد الأستاذ إبراهيم أصبان أهمية ربط المفاهيم القرآنية بمقاصدها في بناء الإنسان تصورا وسلوكا وبناء محيطه الإنساني والكوني بناء يقوم على الخيرية في كل المجالات، وبناء على ذلك انتقد الأستاذ طريقة الوقوف عند حدود الألفاظ ومبانيها دون مجاوزة ذلك إلى المقاصد والغايات من الخطاب الإلهي للإنسان.
> المحور الثاني : حاول معالجة مسألة “مناهج الاستنباط والاستدلال” وقد تتابعت عروض السادة الأساتذة لإغناء النقاش وإثراء الحوار حول مسائل مناهج الاستنباط والاستدلال وإبراز أنواعها التي تدور بين ما هو لغوي وبين ما هو مقاصدي، مع بيان ضوابط وشروط كل نوع وهكذا تناولت كلمة الأستاذ محمد حمد كنان ميغا من الجامعة الإسلامية بالنيجر شروط وضوابط الاستنباط من النص، في حين تناولت الأستاذة ريحانة اليندوزي من كلية الشريعة بفاس مسألة الضوابط التي تخص المنهج المقاصدي في التعامل مع النص الشرعي الذي يتطلب “مناهج سليمة لاستثمار المعاني واستنباط الأحكام الشرعية” تلتزم بالضوابط النسقية والتكاملية في الاستمداد كما ركز على ذلك الأستاذ حميد الوافي من كلية الآداب بمكناس ، فيما رامت مداخلة الأستاذ الجيلالي المريني من كلية الآداب سايس فاس إبراز وظيفة القواعد الأصولية في معالجة وتدبير الاختلاف الأصولي والفقهي.
> المحور الثالث :اختص بالنظر في مسألة التجزيء والنسقية في مناهج التفسير وهي مسألة في غاية الأهمية لأنها من المسائل التي كان لها أثر في انحراف الأمة نحو مزالق التبعيض والتجزيء ومن ثم انحسار الاجتهاد العلمي والمنهجي للأمة، لهذا ركزت أغلب المداخلات على إبراز عيوب ومساوئ الرؤية التجزيئية في الاستفادة من الوحي القرآني والنبوي في مقابل إبراز أهمية المنهج القائم على البناء النسقي والرؤية المتكاملة الجامعة في الفهم والتأويل والاستمداد، وفي هذا السياق تناولت كلمة الدكتور أحمد مبلغي بعض المقترحات المنهجية والإجرائية لوضع قواعد أصولية تدرأ التجزيء وتقي من الخلاف.
> المحور الرابع: كان محاولة لاستجلاء واستكناه الرؤية المنهاجية للوحي وبيان معالمها، وإبراز طبيعة العلاقة التكاملية الواجب إقامتها بين عالم القرآن وعالم الإنسان وعالم الأكوان،فأبرز الأستاذ عبد الرحمان حللي بعض المحددات التي يحددها القرآن الكريم لكيفية التعامل مع القرآن الكريم نفسه، أما أحمد محرزي فتناول أسس فقه الموازنة بين علوم الشرع وعلوم الكون كما يرسم معالمها القرآن الكريم نفسه، أما الدكتور سعيد شبار من كلية الآداب ببني ملال فاهتم بمسألة تجديد الفكر والعلوم الإسلامية من خلال الرؤية القرآنية ذاتها وحاول تلمس خيوط هذا المنهاج القرآني التي من شأنها أن تساعد المسلم في تجديد فكره ومناهج نظره في علوم الشرع وعلوم الإنسان.
ثالثا - نتـائـج ورهانات
انتهى المشاركون في الندوة إلى الاقتناع بأهمية موضوع الندوة وأنه ينبغي أن يظل ورشا مفتوحا أمام علماء الأمة وباحثيها لتعميق البحث فيه خصوصا أن الحاجة إلى الاستمداد من الوحي تصورا ومنهاجا في كل ما يتعلق بالإنسان فردا ومجتمعا تظل قائمة باستمرار وتزداد هذه الحاجة في عصرنا، وأهم رهان ترمي إليه مسألة الاستمداد من الوحي ترشيد الإنسان وإصلاح مناهج نظره وبحثه في المعرفة الشرعية والإنسانية والكونية وتصحيح علاقاته بربه الخالق وبنفسه وبأخيه الإنسان وبالكون والحياة من حوله، لأنه بات مؤكدا بعد فشل كل المنظومات الوضعية أن لا إمكان للخروج من أزمات الإنسان المعاصر إلا بالعودة إلى الوحي الرباني والاهتداء به، وصدق الله العظيم إذ يقول : “إن هذا القرآن يهدي للتي أقوم”.