استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟


4-  مصطلح : التنمية البشرية (1)

يتألف هذا المصطلح كما هو واضح من كلمتين : (التنمية + بشر) و(التنمية) كلمة حساسة تجلب الانتباه، لأنها تمس الإنسان في عمق حياته، و>تهتم بدعم قدرات الفرد، وقياس مستوى معيشته، وتحسين أوضاعه في المجتمع)) (ثقافة التنمية ص 20). وهي مصطلح قديم جديد، قديم باعتبار مفهومه ووظيفته، جديد باعتبار إحيائه وتبنيه لحل بعض المشاكل المتعلقة بحياة الإنسان. يقول أحد الباحثين في تعريف هذا المصطلح : >يعد مفهوم التنمية البشرية مفهوما قديما قدم الفكر الإنساني حيث نجد له أصولا في الفكر اليوناني.. والفكر العربي الإسلامي… والفكر الغربي… وقد استلهم برنامج الأمم المتحدة (الإنمائي) هذا المفهوم، وجعله عنواناً لتقريره السنوي الذي أصدره سنة 1990))(الشباب والتنمية ص51).

والذي يعنينا من هذا المصطلح المركب (التنمية + بشر) هو دلالاته اللغوية، ومدى صلاحيتها لصياغة هذا المصطلح ذي المعنى النبيل، ولذا سندرس كل كلمة على حدة ثم نجمع بينهما.

1- مصطلح (التنمية) بين القصد النبيل والدلالة القدحية : وضع مصطلح (التنمية) ليدل على (النمو والزيادة) فيما يفيد الإنسان من الخدمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الخ لكن دلالته لا تتناسب مع هذا المفهوم النبيل، لأن ما يمكن أن يفهم منه أنه يتناسب مع هذا المعنى لا يتجاوز نسبة 25% وحتى هذه النسبة لا تثبت عند التحقيق، وعليه فمصطلح (التنمية) مصطلح قدحي وضع لمفهوم (نبيل) يقول أحد الباحثين معرفاً التنمية بما يلي : >…لا يمكن حصر التنمية في الحدود الضيقة للنمو الاقتصادي (بل لابد من) تبني مفهوم موسع(*) (للتنمية) يستوعب أبعاداً اجتماعية وسياسية، وتكنولوجية وبيئية؛ إلى جانب البعد الاقتصادي…))(ثقافة التنمية ص 14).

تلك هي أبعاد المفهوم، التي وضع لها مصطلح (التنمية) وهو مصطلح شائع بدون تحفظ، لكن الملاحظ أن ثمّ كلمات أخرى تصاحبه أثناء الاستعمال، إما باعتبارها بديلا عنه كما جاء في التعريف الأول من هذه الدراسة : >وقد استلهم برنامج الأمم المتحدة (الإنمائي))) أو باعتباره مفسراً له كما جاء في التعريف الثاني عند قوله >…في الحدود الضيقة (للنمو) الاقتصادي..)) فورود كلمة (الإنمائي) في التعريف الأول، و(النمو) في الثاني يدل على أن هذا المصطلح (التنمية) غير ثابت الدلالة عند مستعمليه فضلا عن عدم سلامة استعماله في هذا المجال بأبعاده النبيلة كما هي واضحة في التعريف، ذلك أن لكل كلمة من بين هذه الكلمات الثلاث بنيتها (أصلها) المتميزة، و من ثم تتميز دلالتها : (فالنمو) أصله فعل (نَمَى أو نَمَا) (والإنماء) أصله فعل (أنْمَى) و التنمية من فعل (نَمَّى). وهذا ما يستوجب عرض كل الأصول (البنيات) التي يمكن أن تصلح لصياغة المصطلح المناسب لهذا المفهوم من هذه المادة.

للمادة اللغوية التي يمكن أن يوخذ منها المعنى الإيجابي  المقصود خمسة أحوال : حالة أصلية هي (نَمَى) المجرد، وأربعة أحوال فروع هي : (نَمَّى) المزيد بالتضعيف، و(أنْمَى) المزيد بالهمزة، و(تنمَّى) المزيد بالتاء والتضعيف، وانتمى المزيد بالهمزة (همزة الوصل في أوله) والتاء. ولكل نوع فرعه أو فروعه ودلالته، وأعني بالفروع هنا صيغ المصدر التي توظف في التسمية بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده (… + البشر) ولذا نعرض ما تيسر من هذه المادة بأصلها وفروعها كما يلي :

أ- أصل المادة ثلاثة أحرف هي (ن، م، ي(ا)) ومنها يصاغ فعل (نَمَى) المجرد على وزن (فَعَل) بفتح العين، ومضارعه يَفْعِل بكسرها مثل ضرب يضرب أو ينمو (من نَما) على وزن يفعُل مثل نصر ينصر وهو لغة قليلة على الأصح. وله (أي لهذا الفعل بالأوزان المعروضة) دلالات سياقية كلها إيجابية تعني الزيادة والارتفاع وما في معناهما، يقول ابن منظور : >نمى : النماء : الزيادة نمى ينمي نمْياً، ونُمِيّاً ونماء : زاد وكثر، وربما قالوا : ينمو نُمُوّاً… ونَمَى الحديث ينْمِي : ارتفع، ونَمَيْتُه : رفعته (ل ع 341/15)… وفي الحديث ينمي صُعُوداً أي يرتفع ويزيد صعوداً(ل ع 343/15 ع 1)… ولذا قيل : نمى الخِضاب في اليد والشعر، إنما هو ارتفع وعلا وزاد فهو ينمي..(ل ع 342/15 ع 1).

هكذا يتضح أن (النماء) مصدر فعل نمى ينمي يدل على الزيادة والارتفاع. ولعله الاسم الأصلح للمفهوم الذي نحن بصدده (…+ بشر).

ويمكن أن يكون المصدر (النمو) إذا كان من فعل (نما) يقول ابن دريد >ونمى الشيء ينْمِي وينمو، والياء أعلى، وأفصح، فمن قال ينمو جعل المصدر نُمُوّاً، ومن قال بالياء جعل المصدر نماء…))(الجمهرة 179/3 ع2 س23).

ب- (نمّى) بتضعيف الميم على وزن (فَعَّل) مضعف العين، ويشارك (أنميت) في دلالته الإيجابية على النمو أحيانا (وهي التي قلنا أن نسبتها 25%) وتتأرجح دلالته بين السلب (75%) والإيجاب (25%) مع ترجيح دلالته السلبية، وأعني بالايجاب دلالته على الزيادة مثل (نمى) المجرد. أما السلب فأعني به (نقل الكلام على وجه الإفساد وهو الأرجح). يقول ابن مظور : >وأنْمَيْت الشيءَ ونمَّيْته : جعلته ناميا..))(ل ع 341/15 ع2).

… وقيل، نمَّيْته، مشدداً، اسندته ورفعته، ونمّيْتُه مشدداً أيضاً : بلّغته على وجه النميمة والاشاعة، والصحيح أن نَمَيْتُه : رفعته على وجه الإصلاح، ونمَّيْتُه بالتشديد رفعته على وجه الإشاعة أو النميمة..))(ل ع 341/15 ع2).

قال الأصمعي : التنمية من قولك نمَّيْت الحديث أنميه بأن تبلغ هذا عن هذا على وجه الافساد والنميمة، وهذه مذمومة، والأولى (يشير إلى معاني نَمَى السابقة) محمودة. قال : والعرب تفرق بين نَمَيْت مخففا، وبين نمَّيْت مُشدداً بما وصفت، قال : ولا خلاف بين أهل اللغة فيه..))(ل ع 342/15 ع1).

وهذا الذي أورده ابن منظور بخصوص دلالة (التنمية) على النميمة يؤكده الرازي بقوله : >قال الأصمعي نمَيْتُ الحديث مخففاً أي بلغته على وجه الإصلاح والخير، ونمَّيْتُه تنْمِية أي بلغته على وجه النميمة والإفساد))(م خ الصحاح 681)

أما الخليل (شيخ المعجميين العرب) فقد أورد (تنمية) ضمن مادة (نَمَّ) التي تدل على النميمة إذ يقول : >باب النون والميم : نمَّ : النميمة والنميم : هما الإسم، والنعت : نمّام، والفعل : نَمّ يَنِمُّ نَمّاً.. ونَمَّى تنمية))(كتاب العين 373/8).

هذا عن مصطلح (التنمية) أما بالنسبة لما يمكن أن يقترح بديلا عنه من نفس المادة ويفيد ذلك المفهوم الإيجابي النبيل الذي يقصد منه العمل على تحسين أحوال معيشة (البشر) فهو (النماء) أو (النمو) فأصل (النماء) نمي ينمي وأصل (النمو) هو نما ينمو وكل منهما يفيد الزيادة والكثرة.

-يتبع-

(*) هكذا هي في الأصل.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>